د. بشير مصيطفى Messaitfa.bachir@gmail.com اختتمت الاثنين الأخير بالجزائر فعاليات المنتدى الثالث لرجال الأعمال العرب الذي تنظمه سنويا مجموعة "الاقتصاد والأعمال" اللبنانية. وكانت العاصمة التونسية قد احتضنت ملتقى مماثلا شهر أكتوبر الماضي لبحث موضوع الاستثمارات العربية -العربية. ولا أحد يستطيع أن يجزم فيما اذا كان ملتقى الجزائر قد أفضى الى صفقات جيدة أم أنه اكتفى باستكشاف فرص الاستثمار في بلد يجمع بين الطلب الاستهلاكي الكبير والموارد غير المستغلة بالشكل الكافي. وإن كان الجميع قد لاحظ غياب مجموعات استثمارية عربية كبيرة لا زالت تبحث عن توظيفات مناسبة لأصولها. فماذا يعني احتضان الجزائر لرجال الأعمال العرب في هذا الوقت بالتحديد؟ وما المنتظر من لقاء كهذا في سياق الشراكة الاستراتيجية مع الخارج؟ "إعمار" الحاضر الغائب يبلغ حجم الاستثمارات العربية المباشرة المخطط لها في الجزائر 30 مليار دولار، وهو الرقم الذي لا يزال يتردد منذ ما يقارب العامين دون أن تجد المشاريع المبرمجة طريقها الى التنفيذ بسبب عقبات طالما أشرنا اليها في مقالاتنا السابقة. وعدا ما تعلق بافتتاح فروع لبنوك عربية مثل "السلام" و"الريان" بقي المستثمرون العرب ينتظرون مبادرات السلطات الجزائرية لفك لغز العقار والبيروقراطية وتعدد مراكز القرار. وظلت "إعمار" الاماراتية -ذائعة الصيت- تحتضن 25 مليار دولار في انتظار صبها في الاقتصاد الوطني لمدة فاقت العام، حتى صارت "الحاضر الغائب" على خارطة الاستثمارات العربية بالجزائر، وتحولت بذلك الى محور تساؤلات في وسائل الاعلام الأجنبية قبل أن ينعقد المنتدى الثالث لرجال الأعمال العرب كي يعلن عن وضع حد لانتظار "إعمار" بحل مشكلتها العالقة. وهكذا يبدو أن السلطات صارت أكثر قناعة بجدوى جذب الاستثمار العربي المتصف بشروطه المتواضعة وتنوعه في مجال كلفة رأس المال، وانفتاحه بصورة متزايدة على أدوات الصيرفة الاسلامية. الطفرة النفطية تتوسع أوروبيا وأمريكيا في حديث جانبي مع مالك "السيتي سنتر" في الدوحة، الشيخ فيصل بن قاسم آل ثاني، قال لي: "الاستثمار يشبه الطيور المهاجرة التي تبحث عن الاخضرار في كل مكان"، حينها تأكدت من قناعة كنت أحملها وفهمت أكثر لماذا تفضل رؤوس الأموال العربية الهجرة الى كل من أوروبا وأمريكا، حتى بات التنديد بذلك محور توصيات اللقاءات القومية العربية: لماذا تهرب الأموال مثلما تهرب العقول من عالم يختزن 60٪ من بترول العالم؟ وما معنى أن يحتضن العالم المصنع 1200 مليار دولار من الأموال العربية؟ وكيف تلجأ مؤسسة كبرى مثل "سيتي غروب" الأمريكية الى طلب النجدة من البنوك العربية بمجرد أن تراجعت سوق الرهن في العالم؟ الجواب عن ذلك كله في كلام الشيخ فيصل: حيث تكون البيئة مواتية للاستثمار من حيث الخدمات والتسهيلات والجدية في التعامل مع رأس المال، وحيث يشعر الجميع بشفافية القانون وكفاءة التحكيم، يهاجر رأس المال. وهي الميزات التي تكاد تكون مفقودة في وطننا العربي، حاضرة في الدول الكبرى. فلا عجب اذن أن تتوسع الطفرة النفطية الثالثة أوروبيا وأمريكيا. وعلى الدول العربية الذكية توفير الاخضرار اللازم لجذب جزء من تلك الطفرة اليها. نتذكر جميعا كيف تحول مستثمرون كبار من الجزائر الى دولة شقيقة مجاورة لمجرد أنها منحت الأرض لمشاريع استثمارية من وجهة نظر التوسع العقاري دون أن نسمع عن قيود ادارية غير تلك التي تسمح بها السياسة العامة، وبعد أقل من سنة من ذلك اقتربت شركة "نيسان" من هذا البلد وأطلقت به مصنعا لتركيب السيارات قريبا من الميناء ينتج في كل سنة 100 ألف سيارة. وتصوروا معي كم يشغل هذا المصنع؟ وكم يفيد في نقل تكنولوجيا تركيب السيارات؟ وكم يدرب من مهندسين وتقنيين؟ موسم الهجرة إلى الشرق انتقل أول أمس الثلاثاء الى الدوحة وزير الطاقة الأمريكي "بودمان" كي يبحث مع "قطر للبترول" سبل التعاون. وقبلها حل بالسعودية "نيكولا ساركوزي" في زيارة قيل إنها زيارة نووية، والحقيقة أنها زيارة أفضت الى استثمارات مشتركة قدرت ب 40 مليار دولار. وفي ذات الوقت زار "بوش" الامارات العربية حيث "موانئ دبي" الشركة العملاقة التي كادت أن تستحوذ على كل الموانئ الأمريكية لولا تدخل السلطات في واشنطن. اننا نعيش الآن موسم الهجرة الى الشرق حيث الثروة لا تزال بكرا أو قريبة من البكر، ومن الطبيعي جدا للجزائر هي الأخرى أن تفتح ذراعيها للرساميل العربية، ليس فقط للبنوك التي تحسب نتائجها بعين التأكد، ولكن للشركات أيضا التي تمارس المخاطرة وتتوسع في الاستثمار. وضع طبيعي لعوامل كثيرة: فالجزائر بلد عربي وعلاقاته التاريخية مع الشرق واحد من حوافز التوسع عربيا، والرساميل العربية مهمة من حيث الكتلة المالية وشروطها المخففة وتنوعها ثم انفتاحها على متطلبات الشريعة الاسلامية في مجال ادارة المال والمحافظة عليه. ثم التوسع الديمغرافي للجزائر باعتبارها سوقا بارزة بين دول المنطقة العربية، وأخيرا تواضع نتائج الاستثمار الأوروبي والأمريكي خارج المحروقات في الجزائر مع أنه استثمار وجد كل التسهيلات من الادارة. وعلى الرغم من أن منتدى الجزائر لرجال الأعمال العرب لم يجلب انتباه مستثمرين من الوزن الثقيل، بسبب بداية التجربة، أو ربما لأن الاعلام العربي لا يزال يجهل البيئة الجزائرية، الا أن الافراج عن ملف "إعمار" و"القدرة" سيفتح الباب مجددا أمام استثمارات مترددة. وأظن أن مسعى السفارات الجزائرية بالخارج للتعبير عن نية السلطات في احتضان رأس المال العربي يغني الى حد بعيد عن ملتقيات من هذا النوع، وربما يكون أكثر جدوى في ربط المستثمر العربي ببيئة واعدة كالجزائر. ستتحول الجزائر الى فرصة ذهبية للاستثمار في نفس اللحظة التي ستتحول فيها سفاراتنا بالخارج الى مشاريع اقتصادية وتجارية حقيقية، وعندها ستصبح منتديات رجال الأعمال تتويجا لعمليات استثمارية قابلة للتنفيذ فورا وليس استمرارا لدعاية يمكن ممارستها بأشكال أخرى وبصورأفضل.