يتراءى لك القصر العتيق خلف سلسلة جبال صحراوية غير شاهقة. إنه أول عمران في صحراء إفريقيا كلها. شيد بثلاثة طوابق، من مواد أولية، تقتصر على الحجارة والطوب. وهو الذي بقي وحيدا من بين القصور السبعة الأخرى، التي كانت تتكون منها بلدة بوسمغون، أقصى جنوب ولاية البيض. وكلما اقترب بك الدرب الملتوي المحفوف بالنخيل والمباني القديمة الجديدة، المحاذي لوادي بوسمغون، اتضحت صورة الماضي أكثر. باحتشام، تحييك بعض نخلات مطلة من فوق الجدار المحيط بالقصر القديم لبوسمغون، بوابة خشبية كبيرة متهالكة، سنبور ماء يختفي تحت شجرة جميلة، وما إن تدخل عبر الممر الرئيس الحجري المفضي إلى ساحة تاجمعت، حيث تقام الأفراح والتجمعات، حتى تحاصرك أزقة كثيرة من اليمين ومن الشمال. بدأت حكاية قصر بوسمغون قبل 17 قرنا، عندما قررت أسر من أهالي قبائل زناتة الأمازيغية الإقامة كعائلة واحدة على ضفاف واد، في موقع استراتيجي يبوب الشمال، ويعد منطقة عبور للقوافل التجارية والحجيج. متربعا وسط القصر تقريبا، يقبع المسجد العتيق. تفيد الروايات بأن طرازه المغاربي الإسلامي راجع إلى تشييده في بداية الفتوحات الإسلامية في شمال إفريقيا، إذ ورغم ضيق مساحته أيضا، إلا أن قصصا جميلة تتداول حوله.. يحكي الحاج أن النسوة في هذا المجتمع الصغير كن لا يخرجن طوال النهار، لأن الرجال يتجولون في القصر، وعندما تقترب أوقات الصلاة يجلسون بالقرب من المسجد. وبعد انتهائهم، يعودون إلى الجلوس هناك أيضا، باستثناء الوقت ما بين المغرب والعشاء، يبقون داخل المسجد يتلون القرآن، ويحلون مشاكل الناس، ويستمعون إلى الحلقات.. وتتحول تلك الحركة الدؤوب إلى سكون تام، هو فرصة للنسوة للخروج من منازلهن والتجول في الدروب، وزيارة بعضهن البعض. سقف المسجد مبني من أخشاب النخيل والعرعار، التي زينت بأعواد الدفلى الرقيقة، المتراصة، مشكلة زخارف غاية في الجمال، بألوانها الزاهية خاصة الأخضر والأزرق والأحمر الآجوري. وهناك درج في نهاية المسجد، ينتهي إلى بيت الوضوء الواسع. وحتى المحراب مصمم بذكاء يسمح باستغلال المساحة بشكل جيد، بحيث يمكن تفكيك الدرج الأسفل منه بعد الصلاة. وبمحاذاة المسجد، هناك مدرسة قرآنية تحده من الجنوب. وفي القصر هندسة بديعة رفيعة. فبداخل البيوت كانت تحفر بئر كبيرة وتغطى بالكامل، إلا مساحة صغيرة منها. وبالقرب حوض صغير تغسل فيه النسوة الملابس والأفرشة. أما في الدروب، فزوايا المباني لها دلالاتها، فالزاوية المقوسة تعني أن في نهاية الزقاق عائلات متجانسة، فلا يمكن للغريب المرور من هناك، لأن الأبواب تكون مفتوحة أغلب الوقت. ولحفظ الحرمة، تبنى الزوايا الحادة، كدليل على أن الدرب يقود إلى مكان عمومي. أما شرفات المباني العالية، فتطل على الواحات الغنية بالنخيل ومختلف أشجار الفواكه والخضار، التي يقتات منها سكان القصر، التي كانت من أجود المنتجات في الصحراء، توفر اكتفاء ذاتيا لهم. الدار البيضاء، هي عبارة عن بناية بطابقين، تخضع حاليا للترميم، بها أجمل سقف في القصر، يجمع بين الطراز البربري والمغربي الإسلامي، وشرفاتها جميلة جدا، تفتح على أجمل شروق وغروب، على التقاء المدينة القديمة بالجديدة. حسب الحاج، القائم على هذا القصر، كانت الدار البيضاء بمثابة المحكمة، يدخل إليها جميع المذنبين دون استثناء، يعاقبون ويأخذون جزاءهم أمام الأهالي، دون اعتبار السن أو المكانة الاجتماعية، حتى يشع الجميع بالعدل والأمان. ومن مظاهر الحياة القديمة في القصر أيضا، ثلاث غرف صغيرة متداخلة، كانت بيتا لإحدى العائلات في السابق، حولها الحاج إلى متحف مصغر يحفظ حميمية الماضي، فهناك تصوير لحياة السابقين، كيف ينسجون الملابس والأفرشة، ويستقبلون الضيوف ويعدون الطعام.