تزخر ولاية البيّض (جنوب غرب الجزائر) بالعديد من المعالم السياحية الأثرية، التي تُؤكّد قِدم هذه المنطقة في التاريخ، حيث تنتشر عبر هذه الولاية 8 قصور تاريخية تقف شاهدة على تلك الحاجة إلى الاستقرار، وأيضاً على القدرات الإبداعية المبدعة للسكان، الذين أنجزوا تلك القصور بهدف تأمين سبل العيش الكريم وفق نمط معماري ومواصفات هندسية تتلاءم وطبيعة هذه المنطقة شبه الصحراوية. وتشتقُّ تلك القصور أسماءها من أسماء الدوائر والبلديات التي تقع داخل حيّزها الجغرافي، وهي على التوالي: بوسمغون، الشلالة، أربوات، الأبيض سيدي الشيخ، أستيتن، الغاسول، بريزينة والكراكدة. تُعطي جولة داخل قصر بوسمغون الذي يعود إنشاؤه إلى القرن الثالث للميلاد، صورة مصغّرة عن نمط الحياة الاجتماعية والثقافية، التي دفعت بالسكان إلى تصميم منشآت هذا القصر بتلك الطريقة التي تتلاءم واحتياجاتهم الاجتماعية والاقتصادية والحربية. كما يُمكن ملاحظة أن كل بناء في القصر تمت هندسته بناء على مطلب خاص أو عام، ووفقاً للقدرة المادية لكل فرد من السكان. وتؤكد الدراسات الأثرية التي أُجريت حول هذا المعلم التاريخي، أن تصميم القصر وهندسته المعمارية ومحددات معالمه، جاءت بشكل لم يخرج عن تنظيم المدينة الإسلامية وطابعها العمراني، مع مراعاة بعض الخصوصيات الثقافية المحلية. ومن الناحية التاريخية، يُشير الرحالة المغربي العياشي (ق 11ه/ 17 م) في موضعين، إلى قصر بوسمغون كنقطة عبور للرحالة الحجيج. وخلال الفترة الاستعمارية الفرنسية للجزائر، يذكر الجنرال دوماس في كتابه "صحراء الجزائر" (1845)، قصر بوسمغون باعتباره تجمُّعاً سكانياً بدون الإشارة إلى تفاصيل أكثر. أما الطبيب الفرنسي لوسيان لوكلارك فتناول منطقة البيّض في كتابه "واحات مقاطعة وهران وأولاد سيدي الشيخ" (1858)، مشيراً إلى بعض قصورها، ومتحدّثاً عن قصر بوسمغون ورحلته إليه. كما يُؤكد النقيب جي (طبيب فرنسي) في دراسة له بعنوان "دراسة طبية حول ملحقة جيري فيل" (1935)، على أهمية القصور الثمانية الواقعة بمنطقة البيّض، مشيراً إلى أن قصر بوسمغون يُعد أحسنها وأجملها. وتعني تسمية "قصر" في المناطق الصحراوية تلك المجموعات السكنية التي تشغل أحيانا مساحات صغيرة وأخرى كبيرة وتكون محصّنة، أو على الأقل تمتاز بموقعها فوق أماكن مرتفعة، فضلاً عن قربها من الأودية والواحات. وتوجد هذه التجمعات السكنية في صورة قرى تُدعى القصور، غالباً ما تحوي تكويناتها الداخلية بيوتاً للإقامة وبعض الساحات إضافة إلى مسجد. ويُشكل المسجد الجامع الذي يُعرف باسم "المسجد العتيق"، أهمّ معالم القصر، حيث يقع وسط بوسمغون، ويعود تاريخ تأسيسه إلى بدايات الفتح الإسلامي، وهو محاطٌ بالبنايات السكنية، وعلى جهته الجنوبية تقع المدرسة القرآنية. وقد شهد المسجد بعض الترميمات خلال سنوات 1902 و1927 و1952 لم تنل من هويته المعمارية، وبقي محافظاً على جل العناصر المعمارية المعروفة في المساجد الإسلامية عامة. وتتكوّن منازل القصر في غالب الأحيان من طابق أو طابقين وساحة مركزية، أغلبها مبنيٌّ على قواعد وأسس حجرية. وتشتهر هذه المنازل باستخدامها المواد المحلية كالحجارة وسعف النخيل، فضلاً عن توفر أكثرها على إسطبلات نتيجة طبيعة نشاط السكان المحليين، الذين يعتمدون على تربية الحيوانات. وحسب بعض الروايات، فإن قصر بوسمغون الحالي كان محاطاً بسبعة قصور أخرى اندثرت كلها، ونتيجة لذلك كان من الضروري على أهالي بوسمغون إنشاء عناصر معمارية خاصة بالناحية العسكرية لتوفير الأمن والحفاظ على القصر من الهجمات والاعتداءات الخارجية. وتمثلت تلك العناصر الدفاعية الأساسية في السور والأبراج والمداخل والأبواب؛ وهي ثلاثة: الباب الرئيس ويُطلق عليه "الباب القبلي"، ويقع بالجهة الشرقية، وله علاقة بالتجارة والقوافل الوافدة على القصر، والباب الظهراني، ويُطلُّ مباشرة على الوادي، وهو خاص بدخول وخروج فلّاحي القصر؛ والباب الثالث الموجود بالجهة الجنوبية، وهو بابٌ ثانوي. كما اهتم السكان بالحفاظ على سرية الحياة الداخلية للقصر كعنصر احترازي إضافي لصدّ أطماع الغزاة، والحؤول دون سيطرتهم على القصر أو احتلاله.