في الوقت الذي تخلى فيه بعض الأشقاء عن قضيتهم المقدسة وعن القدس، وفضل البعض "المزاد بالمناقصة" والبيع بالتطبيع، وفي الوقت الذي كان يعتقد أن "الديمقراطية" الأمريكية قد تعيد بعضا من الحق إلى كثير ممن هُضمت قضيتهم، بدا جليا للأعين ما كان غشاوة، وبدت أمريكا الديمقراطيين كما عهدناها تاريخيا، في صف الجمهوريين: كلهم في طابور واحد ضد العدالة الدولية وضد الحق لمَّا يكون مع الضعفاء، وبدت إسرائيل هي المسيطر، والهوس الأمريكي كما هو معروف لدى القاصي والداني، وبدت حين يكون الحق مع الضعيف، تقدم على إبطال الفروض والنوافل، وتجميد القانون وليِّ عنق القرارات ذات الصلة، وإفراغ المحاكم الدولية من طبيعة نشأنها وكُنه وجودها، واستخفاف بأبسط العقول عندما يُرمى سهام القوي على قرارات لصالح الضعيف المُطالِب بحقه من القويّ. هكذا، بدت أمريكا بايدن في أول امتحان لها مع القضية الفلسطينية في صراعها مع حليف واشنطن فوق العادة، دولة فوق القانون، فقد عبّرت خارجية "بلينكن" عن بالغ "قلقها" من قرار محكمة العدل الدولية ب"لاهاي" ولايتها على الأراضي المحتلة في 1967. هذا الإنصاف القانوني لمؤسسة قانونية تعمل بنص وروح القانون الدولي، بدا للأمريكيين والكيان خارجا عن القانون و"مساسا بديمقراطية إسرائيل المحاربة للإرهاب ومعاداةً للسامية "كما جاء على لسان نتن ياهو"، بما يعني أن "إسرائيل" لابد أن تكون محصنة من كل جرم أو شبهة مهما ارتكبت من مجازر وخرق للقانون الدولي وحقوق الإنسان وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، وأن "نتن ياهو" وجنوده وضباطه لا يحق لأحد كان أن يحاكمهم بأي شكل من الأشكال وتحت أيِّ ذريعة كانت. هذا الرد الأمريكي السريع الرافض، وفي الساعات الأولى من إعلان المحكمة قرارها، لا يختلف عن موقف الإدارة السابقة التي فرضت عقوبات حتى على قضاة من محكمة الجنايات الدولية لنبشها في ملف جرائم الجنود الأمريكان بالعراق. مع ذلك، محكمة العدل تنتظر من السلطة الفلسطينية ملف الإدانة لقبول الدعوى، والمسار ماضي رغم العصيِّ التي ستضعها أمريكا وإسرائيل في دواليب المحكمة، وحتى لو بقيت قراراتُها بلا تطبيق إن حدث وأن حكمت بتسليم الجناة، فقانون الغاب الدولي، يغالب القانون الدولي المغلوب، كونه نُسج من قبل أقوياء ما بعد الحرب العالمية الثانية، لا ضعفاء العالم الثالث. في الجانب الجنوبي، وفي الوقت الذي نجد فيه بعض العرب المطبِّعين بالطبع وبالتطبيع، أعضاء في الجامعة العربية، التي تعاني من الموت السريري.. هم في نفس الوقت أعضاء في القمة الإفريقية بأديس أبابا قبل أيام قليلة، رفعت القمة صوتها عاليا بعدما خفتت في كل المحافل الإقليمية والدولية في حق القضية الفلسطينية. البيانُ الختامي للقمة كان في غاية الجرأة، حتى ولو فضَّل البيان لغة "المناشدة"، مناشدة الأفارقة المهرولين بالتوقف عن الانخراط في أيِّ تسوية أو تنسيق مع الكيان في ظل مواصلته سياسة الاستيطان والتهويد وخرق القوانين الدولية وذبح الفلسطينيين برا وجوا وبحرا وخنقا اقتصاديا وحصارا مرّا من كل الجهات وفي كل المناحي الإنسانية. وحدها القمة التي عُقدت ببلد سلطان الحبشة الذي لا يُظلم عنده أحد.. جاء صوتها عاليا، رغم العلاقة التي تربط البلد بإسرائيل. ولعلَّ الدعم الجزائري ودولة جنوب إفريقيا للقضايا العادلة في العالم، يُخرجان إفريقيا من تحت مخالب العدو الطامع في التغلغل في أدغالها، ويعيد للحبشة سلطانها ولمصر عزَّتها ولفلسطين حريتها.. حرية محمود حسين.