بقلم: د/ محمد العربي الزبيري بعد أقل من تسعين يوما، سيتوجه إلى صناديق الاقتراع الناخبون الجزائريون ، على اختلاف أعمارهم وميولاتهم السياسية ، لانتخاب من يرونهم أهلا لتسيير المجالس الشعبية البلدية والولائية . وإذا كانت المهمة صعبة ، في جوهرها ، لأن الأمر يتعلق باختيار المواطنات والمواطنين الذين يقوون على تحمل مسؤوليات خطيرة في مجالات التنمية الشاملة ،فإن الواقع المعقد الذي تعيشه الجزائر ، اليوم ، يضاعف من صعوبتها ويجعلها شبه مستحيلة ، ذلك أن الإنسان ، في سائر أنحاء الوطن ،قد تغير جذريا في الاتجاه السلبي ، وفقدت المسئولية معظم معانيها النبيلة لتتحول إلى نوع من التجارة الخاسرة التي قضت على الثقة التي هي أساس النجاح عندما تكون متبادلة بين الحاكم والمحكوم . فالشعوب، كل الشعوب من دون استثناء، طيبة في أساسها، قادرة على صنع المعجزات عندما تجد القدوة الحسنة، لكنها تغرق في البؤس والشقاء حينما تبلى بقياديين لا تتوفر فيهم شروط المسؤولية التي تشكل الكفاءة والأهلية محوريها الرئيسيين، وبالمقابل فإن القادة كلهم لا تتوفر فيهم شروط الحاكم الصالح، ومن ثمة فإن مصائر الشعوب تكون دائما مرهونة بمدى قدرة الحاكم على التفاعل مع رغبات الجماهير الشعبية وطموحاتها• وبديهي أن تلك القدرة هي التي تجعل المواطن يقدم، طواعية على تأدية رسالته المتعلقة بالحفاظ على التوازن في العلاقة بين الأفراد والمجتمع من جهة وفي العلاقة بين سائر شرائح المجتمع والمؤسسات التي يشتمل عليها نظام الحكم من جهة ثانية• ومما لا شك فيه، أن التفاعل بين السلط المختلفة وبين مؤسسات الدولة وشرائح المجتمع ضرورة حتمية ،ليس لتحقيق التنمية والتطور في جميع الميادين فحسب، ولكن ،وهو الأهم ،لتفتح شخصية المواطن وتمكينه من استعادة الثقة في نفسه كشريك مسئول في اتخاذ القرار وتنفيذه ،وكطرف معني بكل ما يجرى في محيطه الضيق والواسع فالأوسع• ومن هذا المنطلق، وعندما يرجع المرء إلى وضعنا في الجزائر، ومن دون أن يسمح لنفسه بإصدار الأحكام النهائية، فإنه يتوقف عند مجموعة من المحاور الأساسية التي يفترض أنها تشكل مرتكزات الالتزام بين نظام الحكم وجماهير الشعب. ومن خلال نظرته الفاحصة إليها، يصل ،بالتدريج ،إلى تشخيص الداء ووصف الأدوية اللازمة لإعادة القطار إلى سكته الطبيعية، أي إلى توفير الشروط التي لابد منها لفتح القنوات بين الحاكم والمحكوم وإعادة علاقات الثقة المتبادلة بينهما، ورسم الخطوط الحمراء التي لا يجوز لأي منهما أن يتجاوزها• غير أن كل ذلك يتطلب ، قبل كل شيء ، التفاتة صادقة من أصحاب الحل والربط الذين عليهم أن يتجردوا من سائر الأمراض الاجتماعية، التي تنخر جسم المجتمع في الوقت الحاضر ، وأن يأخذوا شجاعتهم بأيديهم ويتسلحوا بالعقل ،وحده، فيعيدوا النظر في مواطن الخلل ويقوموا الاعوجاج الذي ما فتئ يخلط الأوراق ويتسبب في عرقلة عملية البناء والتشييد وفي كبح عجلة التقدم والرقي والازدهار. وأول ما ينبغي أن يعاد فيه النظر تلكم العلاقة القائمة بين المنتخبين على المستويين البلدي والولائي وبين الإدارة ، إذ من غير المعقول أن تبقى الإرادة الفردية المستمدة من قرار أو مرسوم، كثيرا ما تتحكم فيه الذاتية والجهوية والمحسوبية ، مسيطرة على الإرادة الشعبية مجسدة في الفائزين بثقة المنتخبين ( بكسر الميم ) . ومن غير المعقول ، كذلك ، أن تملي الإدارة على ممثلي الشعب ما يجب أن يقوموا به، في حين أن الذين يحاسبونهم ،لدى جميع الاستحقاقات ، إنما هم المواطنون الذين اختاروهم لتطبيق برنامج رأوا أنه الأليق لخدمة الصالح العام . لقد كانت هناك ، في السابق حتى لا أقول في عهد الحزب الواحد الذي لم يوجد منذ أن كان وقف إطلاق النار في التاسع عشر مارس 1962، هيأة جماعية تسمى مكتب التنسيق تتولى النظر في ما يحدث من خلافات بين الإدارة والمجالس المنتخبة ، كما أنها كانت تراقب ، من بعيد ، نشاط المنتخبين وتسهر على تجنيبهم الوقوع في المحظور . إن هذه الهيأة لم تعد موجودة ولم تستبدل بغيرها وبقي الفراغ، وحده، يشكل مقبرة لمبادئ الديمقراطية وما كان منتظرا من ترقية الحوار الذي هو ضرورة ملحة للخروج من دائرة التخلف . إن غياب مثل تلكم الهيأة قد ترك الإدارة والمجالس المنتخبة وجها لوجه ، مع العلم أن الأولى تسيطر على جميع الإمكانيات المادية والبشرية وهي ، في غالب الأحيان ، معزولة عن الجماهير الشعبية ،جاهلة لاحتياجاتها وطموحاتها وغير قادرة على التفاعل معها . أما الثانية فمصدرها سائر الشرائح الاجتماعية التي لا تنفصل عنها أثناء تأدية رسالتها ، لكنها فاقدة للسلطة وللإمكانيات بجميع أنواعها ، وهي معرضة ، في جميع الحالات ، إلى عقاب الإدارة دون أن يعطى لها حق الدفاع عن نفسها . وبديهي ، أن هذا الوضع اللامعقول هو الذي حول كثيرا من الجالس المنتخبة إلى أدوات طيعة تخدم الإدارة على حساب الصالح العام ، أو إلى مراكز تجارية يباع فيها كل شيء حتى الذمم. على هذا الأساس، فإن أصحاب الحل والربط مطالبون بتوفير الشروط التي تضمن استقلال المجالس المنتخبة وتعيد العلاقة الطبيعية بين المنتخبين(بفتح الخاء ) والمنتخبين (بكسر الخاء ) ، فيتمكن الأولون من العمل على تجسيد الوعود التي قدموها أثناء حملتهم الانتخابية ، وتعطى للأخيرين فرصة متابعة التطبيق ميدانيا وإمكانية إبداء الرأي في الأوقات المناسبة . معنى ذلك أن المواطنات والمواطنين يكونون على بينة عندما يدعون للإدلاء بأصواتهم ، وعلى يقين من أنهم طرف فاعل في العملية وليس مجرد أرقام تقوم مقام التيس المستعار . هذا من جهة ، ومن جهة ثانية ، فإن التشكيلات السياسية ، إن وجدت ، مطالبة ،هي الأخرى، باحترام الجماهير الشعبية الواسعة ، فلا تضمن قائمة مرشحيها إلا من تتوفر فيهم صفات الكفاءة والنزاهة والالتزام ، وأن تتجنب ، على الأقل ، ذوي الملفات المطروحة أمام العدالة وذوي الأخلاق الذميمة والسمعة السيئة . أما الموضوع الثاني الذي ينبغي أن يتوقف عنده أصحاب الحل والربط فيتعلق بضرورة البحث عن أفضل السبل لتطبيق مبدأ : من أين لك هذا ؟ وهي مهمة سهلة للغاية إذا توفرت الإرادة السياسية ووجدت النزاهة في أعلى مستويات السلطة . ومن دون تطبيق هذا المبدأ ، فإن الجماهير الشعبية لن تستعيد ثقتها في المسئولين على كل المستويات، وبالتالي ستبقى رافضة ، في أعماقها ، للتعاون معهم، تنظر إليهم كنصابين ومحتالين لا تهمهم سوى مصالحهم الخاصة . إن هذه النظرة هي التي تتسبب في الامتناع عن المشاركة في الاستحقاقات السابقة . وإلى جانب من أين لك هذا؟ لا بد من إيجاد طريقة تمكن المواطنات والمواطنين من الاجتماع بممثليهم على الأقل مرة في كل سنة حتى تبقى الأجواء نقية وحتى يشعر المنتخبون (بفتح الخاء )أن ثمة رقيبا ومحاسبا فلا ينقادون للنفس الأمارة بالسوء . هناك موضوعات أخرى كثيرة تستحق وقفة سريعة ،لكن المساحة المخصصة للمقال لا تكفي . وعلى الرغم من ذلك لا بد من الإشارة إلى مسألة التحالف الرئاسي الذي يجب أن يعاد فيه النظر لتستقيم أمور التسيير .