بعيدا عن مدارس القرآن الكلاسيكية، التي يدخلها أطفالنا وبناتنا مُجبرين في غالب الأحيان وليسوا مُخيّرين، حيث أصبحت المدرسة القرآنية هي المدرسة التحضيرية التي تختارها العائلات، وتبقى موازية للمدرسة النظامية، بعيدا عن هذا النظام الذي ارتضاه الجزائريون على مدار التاريخ منذ أن دخول الإسلام، هناك عائلات وأفراد حوّلوا حفظهم الكامل للقرآن الكريم مشروعَ حياة، وبقدر ما نجحوا في رُقية أنفسهم وقلوبهم بكتاب الله، الذي يقرؤونه آناء الليل وأطراف النهار، نجحوا جميعا في حياتهم الدراسية والعملية، وصاروا مضرب الأمثال. وتكاد تتكرر في كل سنة خلال تسليم جوائز الناجحين في البكالوريا التي يُشرف عليها رئيس الجمهورية، أن يكون المتفوق صاحب الامتياز، خاتما لكتاب الله، وعندما قال الشيخ محمد الغزالي عام 1983 إن الجزائر في الصدارة في عدد حافظي كتاب الله لم يبالغ، لأن الجزائريين بمشاهيرهم حفظوا كتاب الله كاملا، فختمه الأمير عبد القادر وعمره دون السابعة، كما ختم صحيح البخاري، وختمه الشيخ عبد الحميد بن باديس، وصلّى بالناس التراويح ثلاث سنوات متتالية، وهو دون الحادية عشرة، وحفظة العربي التبسي والطيب العقبي والعربي بن مهيدي وهواري بومدين، ويحفظه الآن شعب من الأطباء والمهندسين وحتى الأميين، مع العلامة الكاملة لبنات حواء، كما لاحظنا في استطلاعنا، خاصة في المدرسة الباديسية بجامع الامير عبد القادر بقسنطينة التي يشرف عليها الدكتور محمد بوركاب، حيث التقينا برجال ونساء صدقوا ما عاهدوا الله عليه، مِهنهم وأعمارهم ومستوياتهم شتى، وقلوبهم واحدة تخفق بحب كتاب الله، ولا يمكن لأي إنسان أن يلتقي بعائلة الدكتور فريوي بكل أفرادها سوى أن يطمئن على دين الله في الجزائر . فالدكتور صالح فريوي الذي ورث حفظ القرآن الكريم عن والديه، فنجح في نيل المركز الأول عام 1969، وكرّمه ابن مدينته ڤالمة الرئيس الراحل هواري بومدين بجائزة مالية قيمتها 1000دج، وهو فخور بأبنائه الثلاثة الذين يحفظون كتاب الله ويتفوقون في الدراسة، خاصة الابنة الكبرى أمنية فريوي التي دخلت معهد الطب وكتاب الله يزيّن حياتها، وعندما تباشر طالبة طب حفظ موطأ الإمام مالك، موازاة مع تفوقها الدراسي باللغة الفرنسية، التي تُدرّس بها الطب، فإن الأمل لا يمكن سوى أن يُزهر في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الدكتور محمد أخذ بوصية والده الذي حذرّه من تضييع كتاب الله، فقرّر أن يشدّ من همّة زوجته وأبنائه، فصار القرآن نور عائلة بأكملها. وإذا كان صحابة رسول الله قد هاجروا بكتاب الله من مكة إلى المدينةالمنورة، فإن المئات من المهاجرين الجزائريين يهاجرون لأجل حفظ كتاب الله، ومنهم وداد مزاهي، وهي من مواليد كندا التي قدمت للجزائر من أجل حفظ كتاب الله، وشقيقها ماهر مزاهي الذي وُلد منذ 22 سنة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ويحلم بالعودة إلى القارة الجديدة والقرآن الكريم يُنوّر قلبه، كثير من حفظة كتاب الله يفضلون أن يبقى حملهم للقرآن الكريم سرّا وأمرا بينهم وبين ربهم، بينما يفضل آخرون أن يُحدثون بنعمة الله، حتى تكون تجربتهم تشجيع، ونسف للمقولة التي ترى أن حفظ القرآن يتطلب التفرغ الكامل، بعيدا عن العمل والتعلم، وهي نظرية خاطئة نسفها التوأم القرآني الذي يتشابه في كل شيء حتى في الاسم.. محمد نجيب ومحمد مصطفى، ولقبهما صنور، حيث يشتغل والدهما حسين طبيبا ووالدتهما جراحة أسنان ووظيفة الأبناء الأولى هي التفوق في الدراسة، نجيب ومصطفى هما أصغر إخوتهما الخمسة يأخذان من شقيقهما الأكبر المهندس، فهما يسهران إلى ما بعد الفجر في التعلم والمحافظة على كتاب الله، يفتخر والدهما حسين وهو يقول للشروق اليومي.. "ما يبهجني في توأمي هو ثقافتهما التي صرت أنهل منها"، فالتوأم لا يترك من أي علم إلا وأخذا منه، خاصة اللغة الإنجليزية التي صارا ينطقانها، وكأنهما ولدا وترعرعا في أنجلترا.. الشقيقان حطما رقما قياسيا في تفوقهما الدائم من المتوسط إلى الثانوي، حيث منذ أن دخلا عالم الدراسة، والحكاية إما نجيب الأول أو شقيقه مصطفى الأول، وفي الحالتين الشقيق الآخر في المركز الثاني.. وبلغ معدلهما 19 من 20 في الكثير من المراحل.. محمد نجيب ومصطفى يفرطان أحيانا في عطلتهما الصيفية من أجل معاودة حفظ القرآن الكريم، وهما يتلقيان باستمرار طلبات صلاة التراويح بالمؤمنين.. وفي كل صلاة تراويح يتواجد التوأم خلف الإمام بمسجد الإخلاص بجبل الوحش بقسنطينة في أول الصفوف.. وبعد أن حققا العلم الديني الأخروي بختم القرآن الكريم والدنيوي بتفوقهما الدراسي الذي صار أشبه بالظاهرة، باشرا وتفوقا في تعلم أحكام التجويد والترتيل.. حكاية حفظ القرآن بالنسبة لمصطفى ونجيب بدأت منذ سن الحادية عشرة وكان الختم قبل سن 14.. ومارس الأخوان معا السباحة والكاراتي منذ كانا في سن السادسة، وهما الآن رياضيان من الطراز الرفيع. وكالعادة على مشارف شهر القرآن، يحسّ التوأم وكأنه عريس الشهر العظيم، فهما ينويان ختم القرآن الكريم أكثر من مرتين حفظا، ليقدما درسا جاهزا لكل من عشق كتاب الله، ويحلم بأن يجعله ربيع قلبه. أما السيدة ليلى وهي من ورڤلة وقارب سنها التاسعة والخمسين، فلها قصة في غاية التأثير، فقد باشرت حفظ القرآن الكريم عندما خرجت من زيارة طبية، أكد خلالها طبيبها إصابتها بالمرض الخبيث، سقطت السيدة ليلى أرضا، كانت مرادفة كلمة سرطان بالنسبة لها هي الموت المحتوم، أظلمت الدنيا في عينيها، كانت لا تتوقف عن البكاء سوى لتقدم وصلة من النحيب، اعتزلت الناس واعتزلت الحياة، حتى إنها فكرت في الانتحار قبل أن تتمكن الأورام الخبيثة من جسدها النحيف، إلى أن أهدتها ابنة أختها المصحف الشريف، فقرّرت أن تحفظ جزء عم، وحينها بدأت الأشعة النورانية تكسر الظلام الذي عاشته، وتحوّل الحلم إلى حفظ رُبع، ثم نصف، إلى أن ختمت السيدة ليلى قبل نهاية عام 2012 كتاب الله دون أن تزلزل الأورام الخبيثة إرادتها، تقول ودموع الفرح تُعوّض هذه المرة دموع الحزن إنها لم تعُد مهمومة بالمرض الخبيث، وهي ترحب بالموت إن أرادها القدر، لأنها ستحمل كنزها معها إلى قبرها، ولن يحمل بقية الناس أموالهم وأهلهم وجمالهم وصحتهم.
يقولون إن مصر هي الدولة الوحيدة التي يُمكنها أن تنافس الجزائر في عدد حفظة القرآن الكريم، لأن جامعة الأزهر تشترط على الدارسين فيه حفظ كتاب الله، ولكن الجزائر التي سنّت في تعليمها بقوة مجتمعها تعليم كتاب الله، أصبحت الآن في مراكز متقدمة، رغم غياب الإحصاءات الحقيقية والدقيقة، خاصة أن حفظة القرآن الكريم يفضل غالبيتهم البقاء في الظل، من أجل الابتعاد عن شُبهة الرياء، وما يحدث في الخمسة عشرة ألف مسجد خلال الشهر الفضيل، التي تزدحم في صلاة التراويح بالنساء والرجال والأطفال، ما يعني أن غالبية الجزائريين إن لم يكونوا حفظة لكتاب الله، فإنهم يختمون قراءته أو الاستماع إليه على الأقل مرة في السنة، ولكنهم لن يبلغوا درجة الأثرياء الحقيقيين، وهم حفظة كتاب الله الذين يمتلكون كنزا لا يفنى.