أ.د. فوزي أوصديق oussedik@hotmail.com نتساؤل حول مرض أصاب بعض المسؤولين وهو مرض بُعد أو قِصر النظر (Myophie) للقضايا المطروحة على الساحة الوطنية، أي اختلاط الرؤية. وعليه، قد يحتاج هؤلاء إلى ضبط الرؤية. للأسف الشديد، من خلال الممارسات اليومية يبدو أن المرض أصبح مزمنا وبدأ يتفشى كالوباء، في مختلف المستويات العليا والدنيا باختلاط المفاهيم وتعثر الممارسة مما أثر سلبا على سير المجتمع والدولة. فخلال الحملة الانتخابية وما تبعها من ظهور وجوه جديدة قديمة؛ تيقّنت فعلا أننا نحتاج إلى إعادة »بناء« وليس »هيكلة« للحياة السياسية والمؤسساتية، فالجديد لا يبنى بالقديم، فقد يلمع اليوم أثناء الحملة وينتهي بريقه بعد مدة، وتعود »حليمة لبيتها وعادتها القديمة«. كما أننا لا نشبب الممارسة السياسية بخطابات جديدة دون روح أو عقلانية، فالتاريخ لا يرحم، وقد يلاحق العديد مما سمعناهم أثناء الحملة؛ ومن عوارض »قصر النظر« الذي أصاب البعض من مسؤولينا، أن الكل أصبح يطمح للمسوؤلية للاستوزار (مثلا) وما شابهها وإن كان ذلك طموح مشروعا لكل فرد ولكن يجب أن يكون بشروط موضوعية ووفقا لسنن الحياة، فحياتنا السياسية مليئة بهذه النماذج الفذة أين نجد اللامنطق وعنصر المفاجأة هما السائدان، فإنني لا أسمي أي شخص، حتى لا أجرح أي واحد؟!!! ويمكن قراءة ذلك من خلال ما قاله رئيس الحكومة السابق أنه خلال ربع قرن السابقة عرفت الجزائر ما لا يقل عن خمسمائة وزير والعين على يد الحساد فهذا القياس صالح على باقي الإدارات الاخرى؛ فأصبحنا نغير »المسوؤل« كتغييرنا للأقمصة خلال الأسبوع... فالتغيّر دائما فيه بركة وتجديد للدماء ومحمود.. ولكن فى المقابل يجب أن نترك تلك الدماء أن تقوم بدورتها الاعتيادية... ثم نقدم ونشخص ونعطي الوصفات إن كان التعبير صالحا أو سيخلق الإرباك أو يؤدي إلى الشعور بعدم الاستقرار، فأي تغيّر قبل ذلك هو إجحاف واستباق للنتائج بكل المقايس، وظلم لذلك المسؤول. فمعيار تغييرنا للمسؤول عادة ما ينبني على الجهوية وتوازناتها المقيته؛ على حساب الكفاءة والنزاهة، حتى أصبحنا نسمع أن بعض »المسؤولين« قد لا يلبون الدعوات الرسمية والمناسبات الوطنية على أساس جهوي محض وحسابات تكتيكية، والتعميم الرئاسي الصادر منذ أشهر لنبذ هذه الممارسة البالية التي كنا نتمنى أنها اندثرت مع اندثار عصر الدنياصورات... للأسف، ذلك التعميم هو شهادة اعتراف أكثر من أداة زجرية وشهادة وفاة لتلك الممارسة، فالناس على دين ملوكهم... فاللوم على أصحاب القرار قبل الموظف البسيط... ومن العوارض الأخرى لقصر النظر لقضايانا؛ أننا نلتجئ إلى »سياسة الصالونات« و»السياسة الديماغوجية " والكلام أكثر من »سياسة الميدان والجزائر العميقة«، مما نتج عنه فقدان الرؤية وغياب الفهم وضياع الهدف. ومن مخلفاتها إما أن تكون معي أو ضدي، إما أبيض أو أسود، فلا مساحات رمادية ولا صوت يعلو على صوت المسؤول؛ فالأرقام الرسمية والخطابات المعتمدة هي أرقام وخطابات المسؤول فقط، أما باقي الأمور فهي تدخل في خانة زعزعة الاستقرار أو البلبلة والإرباك مما نتج عنه تهجين للمجتمع المدني والحياة الحزبية وباقي الروافد الأخرى التي لو تركت على حالها لجعلت ديناميكية في التسير وخدمة أفضل للصالح العام. فحتى الأرقام الرسمية متضاربة بين وزير ووزير، ونسي »معالي« أنه بذلك التصرف قد يضرب في الصميم إلى أضعاف مصداقية الدولة وفقدان هيبتها في الداخل والخارج، فتصريحات المسؤول؛ قد ترفع أو تخفض أسهم الدولة؛ وما أكثر »التصريحات الديماغوجية« لمسؤولينا بمسؤولية وبدونها؛ وفي مناسبة وبدونها... أما أعراض بعد النظر فهي عديد من بينها كأن نحاول تسيير مرافقنا بمنطلقات غير واقعية؛ خيالية؛ مشحونة بالإيديولوجية. فمثلاً؛ البترول تجاوز التسعين دولارا ومازلنا متشبثين بالمعيار المرجعي »تسعة عشر دولارا« أثناء إعداد الميزانية؛ فهذه رؤية مفرطة لاستشراف المستقبل ومجحفة في حق المواطنين بحجة التفكير في الأجيال المستقبلية؛ أو بلد كالجزائر له احتياطى مالي يزيد عن الثمانين مليار دولار ومازال بعض أفراده يقتاتون ويعتمدون على »قفة رمضان« و»المساعدات التضامنية« وتقديمها على أنه إنجاز يستحق الإشادة... أليس هناك خلل فى الرؤية؟! وبعدها ضياع للحاضر. وحتى نكون منصفين، قد يرد علينا أنه يجب النظر للصورة الكلية... وليس إلى جزئيات البيان التى قد تعلو وقد تتدنى في مرحلة من المراحل؟ فعلا وجهة نظر وجيهة... ولكن مع انتشار بعض الظواهر البعيدة عن التقاليد الجزائرية والنابية للأعراف السائدة والناتجة عن سياسات فاشلة؛ فهي لم تكن وليدة الصدفة أو العفوية... فجهاز السكانير ودقته العلمية قد لا ترحم أثناء التشخيص ولا يمكن أن تخفي أعراض قصر النظر أو بعده... فاستفحال هذه الآفة بدون علاج قد تؤدي إلى العمى أحيانا؛ ومن أمثلتها أننا نتشدق بتجاوز 4٪ و5٪ من النمو؛ ونسي البعض أن هذا النمو اصطناعى وغير منتج يتم ضخه من البترول فقط... وباقي القطاعات الإخرى إما هامدة (الصناعة مثلاً) أو فى غرفة الانعاش (الزراعة)، ولذلك قد حان التساؤل، كيف لنا أن نخرج من هذه المعضلة "الصحية" ويتم علاج الرؤية بإعادة توازن النظر، والتوازن السياسي المقصود به أن يتقرب المسؤول من الرعية ويعيش انشغالاتها اليومية ويجربها ولو ليوم... وسيلمس آنذاك عظمة الشعب وصبره على البلاء... وأول عمل جواري للمسؤول المعيّن أو المنتخب أن يكون صادقا مع نفسه وغيره، لأن العديد منهم أثناء أدائه للمسؤولية قد تحدث له السلطة دورانا ينسيه، في خضمها، أنه »لو دامت لغيرك ما وصلت لك«... فأين فلان وأين علان وأين... إلخ، فكل الأمور قد تزول إلا المواقف والتاريخ لا يرحم. فبعض نوابنا مثلا بمجرد ماتم إعلان نتائج فوزه أصبح يفكر في الهجرة إلى العاصمة؛ وذلك زحف خفي من القرى إلى المدن لم يعرف إلا لدى طبقتنا السياسية في الجزائر والعينات عديدة... والبعض اختفى عن الأنظار... فهذه عينة من القاموس السياسي الجزائري التي أصابها المرض؛ وأحيانا سبب استرجاع هذا التوازن ليس نتيجة ضبط النظر؛ ولكن بسبب إزالة »الغش« الذي يحجب النظرة الصحيحة ويوهم ببعض الحلول؛ وذلك الغش يمكن إزالته؛ بتنحية بعض الحواجز المصطنعة للمسؤول؛ فيوميا وعلى جدران بعض البلديات والإدارات المركزية يكتب شعار »تقريب الادارة من المواطن« و»الإدارة في خدمة المواطن«، ولكن بمجرد الاقتراب منها يجب أن يرزقك الله صبر أيوب علية السلام؛ أليس رئيس الجمهورية القائل إنه من السهل له الاتصال بالإدارة الأمريكية بدلاً من الاتصال بأحد ولاة الجمهورية الجزائرية، والحواجز المصطنعة عادة ما تكون من خلق بعض الطفيليين المستفدين من المصلحة بإيهام المسؤول بتقارير زائفة بعيدة كل البعد عن الواقع اليومي... على شاكلة كل شيء على ما يرام... أو حققنا أنجازا قدره 90٪... صحافتنا وإذاعتنا وتلفزيوننا يوميا يسرد هذه الاسطونات المشروخة... فالحكم الراشد ودولة القانون وسيادة الحق تبدأ بنبذ هذه المنطلقات الخاطئة وعدم تشجيعها أو السكوت عنها؛ فالساكت عن الحق... شريك في استفحال هذا المرض حتى لا أقول شيئا آخر.