"آلو أمي، إني بخير لا تقلقي (تنقطع المكالمة الهاتفية)"، لم تكن تدري أن الدماء كانت تلطخ وجهها إلا بعد رؤيتها للدم على هاتفها.. أغمي عليها وجدت نفسي بجانبها ودون شعور مني أصعد معها سيارة الإسعاف إلى مكان الإنفجار.. حيث حافلة نقل الطلبة، تعددت المراكز الحيوية، إقامة القضاة، المجلس الدستوري، المجلس الإسلامي الأعلى، المدرسة السعودية.. وتعددت معها تخمينات أجهزة الأمن.. من المستهدف؟ ليس هو المهم.. هناك قتلى، جرحى، دمار.. إنها رائحة الدم.. 11 ديسمبر عادت الذكرى، لكن بحدث جديد.. كانت الساعة تشير إلى التاسعة وخمس وأربعين دقيقة عندما كنا في قاعة التحرير سمعنا دوي انفجار قوي.. إنها قنبلة.. المكان حيدرة، انطلقنا إلى هناك لنغير مسار طريقنا بعد سماعنا بانفجار قنبلة ثانية أمام مقر المجلس الدستوري، اضطررنا لنسير لمدة أكثر من نصف ساعة على الأقدام، وصلنا المكان وسط جوي رهيب، بدت على ملامح قوات الأمن حيرة، لم تكن هناك أوامر بعد محددة لمنع الصحافة أو حتى بقية المواطنين من الإقتراب من مكان الإنفجار، حيث كان الطريق يتوسط كل من إقامة القضاة والمجلس الدستوري، غير بعيد عن المجلس الإسلامي الأعلى وعلى مرمى حجر من المدرسة العليا للقضاة والمركز التجاري تجاورها المدرسة السعودية.. إخلاء جميع الأماكن الحيوية قامت قوات الأمن بعد الإنفجار بإخلاء جميع الأماكن الحيوية بدءا بالمؤسسات التربوية، حيث تم إخراج التلاميذ واستدعاء أوليائهم، كما تم إخلاء المركز التجاري المقابل للمدرسة العليا، كما هو الحال مع المدرسة السعودية، فيما تنقلت قوات الأمن لفحص مختلف السيارات التي كانت متوقفة بالمكان وأخذ أرقامها، وظلت سيارات الإسعاف منذ الساعة العاشرة إلا ربعا إلى غاية منتصف النهار تتردد على المكان، كما تنقلت مختلف أجهزة البلدية لإنتشال حطام تهدم جدار المجلس الدستوري، فيما بقي المواطنون يترددون على المكان للبحث عن أقاربهم "أين ابني؟ لقد ركب في الحافلة، أريد أن أراه، اتركوني.. انه ليس ميتا.. (يطمئنها الشرطي لا وفاة داخل حافلة نقل الطلبة).. بالقرب منها شيخ في عقده الستين "كنت مارا بالمكان، سمعت صوتا قويا، سقطت أرضا، لم أنتبه إلا والدم ينزف من وجهي"، بالقرب منه عاملة النظافة، خرجت لتوها من إقامة القضاة لا تدري شيئا، تمسح دموعها "واش حبو يعيدو علينا والفو يقتلو الجزايريين كل مناسبة ديال فرح"، حاولنا الإقتراب منها، تتردد ثم ترفض، اذهبوا إلى هناك صوروا جثث الضحايا، الدم، الأشلاء.. توفي بن زينب، كان شرطيا طيبا، قتلوه قتلوه.. عرفنا لحظتها أن أحد القتلى شرطي لم يمضي على تعيينه أكثر من خمسة أشهر.. ها هو شاب في مقتبل العمر قادم، "لماذا يقطعون شبكة الإتصالات، كيف نطمئن أوليائنا.. أمي لديها مرض السكر. ستموت لو تسمع بانفجار قنبلة. تدري أني طالب في العاصمة"، عرفنا انه من ولاية البويرة، تخصص حقوق، كان بالقرب من مكان الإنفجار.. السيارة المفخخة: إلى أين كانت تريد الإتجاه؟ اختلاف المراكز الحيوية وتفرقها على طريق حيوي يعتبر ممرا وحيدا باتجاه العاصمة، خلق حالة من الذعر لدى قوات الأمن أدى إلى إحاطة المكان بسياج يمتد على أكثر من 500 متر ليشمل كل من المدرسة السعودية، المدرسة العليا للقضاء، إقامة القضاة، المجلس الدستوري، المجلس الإسلامي الأعلى، حتى أننا وجدنا صعوبة في اختراق المكان.. أجهزة الأمن نفسها كانت تستسقي أخبار ما حدث من ألسنة الصحفيين، كان البعض منهم يغطي ملتقى وطني حول رعاية الأحداث تحت رعاية وتنظيم وزارة العدل، وهو ما سمح لمن كانوا هناك بمعرفة حيثيات الإنفجار.. بعضهم يتحدث عن انفجار شاحنة بالقرب من موقف سيارات المجلس الدستوري، لكنها لم تدخل فوقع الإنفجار، كان بالقرب منها حافلة لنقل الطلبة كانت تتجه من بن عكنون إلى بوزريعة في توقيت الساعة التاسعة والنصف.. أي ربع ساعة بعد انطلاقها من محطة نقل الحافلات، لم يكن بداخلها الكثير من الطلبة، لكن أثر الإنفجار كان قويا، تكسر جميع الزجاج حتى الحديد تداخل في بعضه.. فيما تقول أصداء أخرى أن الحافلة كانت متوقفة لعطب أصابها ولم يصب أي طالب بداخلها، ماعدا السائق الذي أكد وفاته مستشفى بن عكنون، تتحدث فاطمة، كانت تهم بالخروج من إقامة القضاة، تأخرت بساعة، رأت قرب الإنفجار جثث الضحايا أشلاء، دماء.. أصابتها شظايا بعض الزجاج على وجهها، تمسح الدماء، ثم تقول: "لم أنتبه إلا والأرض تهتز تحت قدماي، أمسكت بجدار الإقامة، فسقط الزجاج على رأسي، خرجت بسرعة.. لم أر غير حافلة لنقل الطلبة باللون البرتقالي.. المكان كان رهيبا.."، حاولنا الإقتراب من أجهزة الأمن واستقصاء ما حدث، لكننا قوبلنا بتكتم كبير، حرمنا حتى من الإقتراب من المكان وحتى التحدث مع الضحايا، البعض منهم كان في حالة من الهستيريا.. 35 جريحا من مدارس ومتوسطات بن عكنون بقي ربع ساعة . المكان متوسطة "شكيب آرسلان".. أستاذة مادة التاريخ تسأل بماذا يذكركم تاريخ اليوم.. إنها ذكرى 11 ديسمبر، مرت سبعة وأربعون عاما.. لحظات لا أكثر تنفجر القنبلة.. يسقط زجاج النوافذ.. يندفع التلاميذ صوب الباب.. إنه زلزال.. زلزال هكذا قصت علينا أستاذة التاريخ لحظات انفجار القنبلة.. فيما ارتسمت على أولياء الطلبة حيرة كبيرة لمعرفة فيما إذا كان أبناؤهم من بين ركاب الحافلة، أم لا، فيما يقول احمد تكسرت زجاجات سيارتي من على بعد 200 متر، تماما مثلما سقط زجاج أغلب نوافذ العمارات المحيطة بالمكان، كالمؤسسات التربوية.. أغلب الجرحى من متوسطة شكيب آرسلان، ابتدائية ماكلي، أين تكسر جميع زجاج النوافذ، تم إخراج التلاميذ فورا، بكاء التلاميذ كان قويا، وجوه بريئة لم تكن تدري إن احتفالات 11 من ديسمبر ستكون على غير العادة.. "فجأة سقط الزجاج جرحت في يدي سقط صديقي خالد وأصيبت مروة.. أخرجنا المدير من أقسامنا.." يتحدث يوسف عمره 9 سنوات، عندما انتقلنا إلى معاينة الجرحى في مستشفى بن عكنون، بدا المستشفى في حالة طوارئ، تنقل مركزين لحقن الدم بالقرب من كلية الحقوق، المركز مكتظ عن آخره، أريد أن أتبرع بالدم، أصيب صديقي، أدري أن هناك الكثير من الضحايا.. كانت لحظتها الأمطار تتساقط بكثرة ومع ذلك اصطف الكثيرون في جو ربما أصبح ديكورا جزائريا نخشى أن يتحول 11 من كل شهر إلى مكان لزرع القنابل، هكذا ردد على مسامعنا اسماعين.. رائحة الدم.. أشلاء الضحايا.. 11 ديسمبر جاءت حافلة البلدية، وعمال النظافة جاءوا ليكنسوا رماد المجزرة.. كان يكفكف دموعه "ماذا أقول لك يا ابنتي، إنه قدر الموت.. ولكن هل قدرنا أن نموت وأيام العيد"، عندما قررنا ترك المكان، كانت عقارب الساعة تقترب من الواحدة زوالا، توقف لنصف ساعة صوت منبه سيارة الإسعاف وهدأت هستيريا الخوف، سقطت المطر واختلط ماؤها بدماء قتلى وجرى أبرياء.. لا ذنب لهم سوى أنهم مروا بالمكان.. صدفة كان لقاؤهم بنوع جديد من رواد الليل، يقتلون دون مواجهة، كان يبكي، لأن "عمي رابح" من كان يقله من بن عكنون إلى بوزريعة، لم يعد موجودا، توقف فنزل جميع الطلبة، غيروا حافلة أخرى وبقي هو ينتظر إصلاحها فجاءه الموت.. عدنا إلى مقر الجريدة وفي أذهاننا صور للقتلى والجرحى.. وفي قلوبنا خوف جديد، ترى هل سيكتب علينا ان نحسب ألف حساب كلما اقترب 11 من أي شهر. عمي رابح .. مات بن زيدي رابح، 53 سنة، سائق لحافلة نقل الطلبة.. وكأن الموت ناداه.. جاء لينقل الطلبة ممن توقفت حافلتهم المعطوبة فاحتضنه الموت، صورة انعكست على كل ملامح الطلبة "مات عمي رابح.. مات وبالأمس كان يقول لنا انه سيشتري "كبشا بوقرونو"، هكذا ردد على مسامعنا مصطفى، لقد جاء ليقلنا وهو يتأسف لنا قائلا "لقد تأخرتم عن محاضراتكم.."، توفي أيضا شرطي، 28 سنة، يدعى بن زينب عبد الرحيم، تم تعيينه منذ 5 أشهر.. كان الموت أسرع من أن يحول عام على ممارسة مهنته. روبورتاج: فضيلة مختاري