عبد العالي رزاقي إذا كانت السلطة في الجزائر ولدت رسميا مع ثورة الفاتح من نوفمبر 1954، فإن من تقلّدوها بعد 5 جويلية 1962 حاولوا كتابة تاريخهم، لا تاريخ من استشهدوا خلالها، ولهذا تعاملوا بمنطق الإقصاء وبالرغم من أن التعددية ولدت مع استرجاع الجزائر لسيادتها إلا أنهم حملوا شعار "الشعب غير جاهز للتداول على السلطة". وبالرغم من أن المرحوم مالك بن بني ممّن طرحوا فكرة "القابلية للاستعمار، فإنه لم يطرح قابلية الشعب ل "الديمقراطية" و"التحرر"، عكس فرانز فانون الذي انتبه إلى خصائل "معبذو الأرض". هل كان على جبهة القوى الإشتراكية أن تنتظر 26 سنة ليعترف بها كحزب سياسي "1963 - 1989"؟ وهل كان على بن بلة أن يقضي 14 سنة في السجن دون محاكمة؟ وهل كان محتوما على كريم بلقاسم ومحمد خيضر أن يترصدهما الموت وهما في المنفى؟ وهل كان على بوضياف أن يغتاله الموت وهو يمدّ يده ل "المصالحة الوطنية". تعددية الإنهيار الكبير كانت التعددية في الجزائر بمثابة انهيار لأهم مؤسستين حكمتا البلاد مدة 27 سنة "1962 - 1989"، وهما "الثكنة" والمسجد، فالأولى حين جرّدها الشاذلي بن جديد من ممارسة السياسة أطاحت به وراحت تعين الرؤساء، والثاني حين فقد سلطته على الشارع، تحوّل إلى منتج للعنف. وإذا كان المسجد والثكنة قد تعايشا خلال الحزب الواحد، وافتقرا بمجرد بزوغ فجر التعددية، فإن هذه التعددية أنجبت لنا مؤسسة جديدة إسمها "الصحافة"، صارت تنافس المؤسسة الدينية والمؤسسة العسكرية، واستغلت الأجهزة ورجال الأعمال الصحافة فصارت الجزائر "كعكة" مقسمة على ثلاث قوى تتصارع، وكانت الأحزاب مجرد "بيانات وتصريحات" على أوراق الصحف. ودخلت الجزائر مرحلة "الدهاليز"، فانهارت السينما الجزائرية واستولت الأحزاب على مقراتها، والتجار على قاعاتها، وانهارت مؤسسة توزيع الكتاب "SNED"، فاختفت أهم المكتبات والمخازن والمطابع، وانهارت الدبلوماسية فصارت الجزائر مرادفة للإرهاب والموت، بعد أن كانت "قبلة الثوار" وقلعة الأحرار في العالم. والتعايش الذي كان بين الإسلام والعربية والأمازيغية طيلة 14 قرنا صار صداما وابتزازا وتمايزا. وإذا كان هناك من أراد تشويه المؤسسة العسكرية فذلك لأنها وقعت في إرث من الأخطاء، وأولها عدم تحويلها إلى مؤسسة مهنية، وبقيت الخدمة الوطنية هي مموّلها الأساسي، وطاقمها المتجدد، وثانيها أنها أبعدت في عهد الشاذلي بن جديد ضباط جيش التحرير، وثالثها أنها لم تكن تملك "استراتيجية اتصالية"، واكتفت برتبة "عقيد" إلى غاية رحيل العقيد هواري بومدين، ومادامت الرتبة ذات علاقة بالإدارة، فمن الطبيعي أن تبقى مغلقة على نفسها. ومع أنها تعرضت لهزات كبيرة، بسبب سلوك قادتها الذين أحيلوا على التقاعد، فيما بعد، فإنها بقيت واقفة.. أما المسجد فكان الملاذ الروحي للمسلمين والمحافظ على الوحدة الوطنية، وكان مولود قاسم وشيبان أهم رموز المؤسسة الدينية في الجزائر، وإذا كان الأول قد رحل بعد أن ترك آثارا عظيمة فإن الثاني مايزال يجمع علماء المسلمين، ويوحِّد ما فرّقته "المساجد الرسمية" التي تدعمت بالزوايا. إن "قداسة المسجد" تحولت إلى سلطة في أيدي شُبّان همّهم الوحيد هو تكريس وجودهم السياسي، وحضورهم الديني، ولو على حساب الغير. وفي الوقت الذي استطاعت فيه المؤسسة العسكرية السيطرة المطلقة على "مصير البلاد والعباد"، فقد المسجد أو المؤسسة الدينية سيطرته حتى على الموظفين التابعين للشؤون الدينية. وانتقلت "حروب الردة" على "المساجد والثكنات" إلى صفحات الجرائد، فصارت الصحافة تحمل سيفين وهما سيف الحجاج بن يوسف الثقفي وسيف علي بن أبي طالب. ودخلنا الحروب الوهمية وكان لابد من ضحية لتغليب هذا التيار على ذلك، وكانت النتيجة هو أن الصحافة صارت"كبش فداء"، ومشجبا تعلق عليها مشاكل الجزائر، وأول من كلفها بهذه المهمة رسميا هو الرئيس عبد العزيز بوتفليق حين ألغى مؤسسة "وسيط الجمهورية"، وطالب المواطنين بالتعامل مع الصحافة العمومية لنقل شكواهم إليه، وبدأت الطحالب تنمو في البرك الراكدة للثقافة والاقتصاد والسياسة والمجتمع المدني، فتحوّل إتحاد الكتاب الجزائريين إلى "بزنسة" تقودها امرأة، وتحوّل الاقتصاد إلى رصيد كبير من العملة الصعبة يتنافس على نهبه من يمثّلون الشركات المفلسة في فرنسا أو أصحاب المؤسسات الوهمية، أو أصحاب الحاويات الطائرة على حد تعبير المرحوم محفوظ نحناح، وصارت الأحزاب عبارة عن منابر للدفاع عن الحاكم ضد المحكوم، وبات المجتمع المدني يمارس العنف، ويقوم بأدوار "المدّاحين" في الأسواق. قد تكون هذه الصورة قاتمة أو تشاؤمية ولكنها واقع معيشي يومي، يصير فيها "قصر المرادية وطائرة الرئاسة" لنجوم الرياضة والسينما والإعلام. سلطة الكاهنة الحركة الثقافية البربرية قادت حربا إعلامية شرسة ضد السلطة في عهد الحزب الواحد، وقامت بحركات احتجاجية في عهد التعددية، وانتزعت اعترافا "دستوريا" باللغة الأمازيغية، بالرغم من عدم اعترافها بالسلطة القائمة، ورفضها للاستفتاء الدستوري هذا "المكسب".. لكن الأمازيغية كانت مجرد "مطلب" لذر الرماد في العيون، فالذين طالبوا بها لم يطالبوا بفتح مدارس لأبنائهم لتعلمها، وحتى حين فتح أحد أقطابها فرعا بجامعة الجزائر للدراسات ما بعد التدرج لم يجد من يلتحق بهذا الفرع. واليوم، ترتفع أصوات في وزارة التربية ل "فرضها" في الامتحانات، ومحاولة تضليل الناس، والمؤكد أن الأمازيغية تراث جزائري نعتز به، ولا يستطيع أحد أن يزايد عليه، فالحركة الثقافية البربرية لم تصدر، في تاريخها، بيانا واحدا بالأمازيغية حتى ولو بالحروف اللاتينية، وكذلك الأحزاب التي تبنّتها كمطلب لها. والمفارقة، أن السلطة الجزائرية حين منعت الأحزاب من الدفاع عن العناصر الثلاثة للهوية الوطنية في برامجها، لم تحتج بل أقدمت على حذف هذا المطلب من برامجها حتى تعتمد رسميا، في حين أن أحزابا إسلامية وعربية رفضت ذلك، فلم تعتمد حتى الآن. ويبدو أنه لا يوجد شبيه ل "الكاهنة" في المنطق السياسي للحركات البربرية، فلو كانت الكاهنة حية لما طالبت بأن تعترف السلطة بلغتها، وإنما لتركت أبناءها يختارون، مثلما اختاروا الالتحاق بعقبة بن نافع في مواجهتها مع كسيلة. كانت الحركة البربرية تراهن على أمازيغية الرئيس اليامين زروال وليس على "وطنيته" أو "مواطنته"، ولهذا حاولت محاصرته ب "الجمعيات" دون أن تفلح في إقناعه بالاعتراف ب "لغة" لا تملك أدبا ولا حروفا في غير أصوليها "التافيناغية". الشعب لا يصوّت مرتين حين تقرأ مذكرات "التيار الإسلامي" تتأكد من أنه لا يملك الجرأة على مصارحة نفسه بأن الشعب قد لا يصوّت مرتين للحزب نفسه.. فخوف حماس من إجراء انتخابات مسبقة، جعلها تطعن في قرار محمود عباس الذي يدعو إلى الاحتكام للشعب بانتخابات رئاسية وتشريعية مسبقة. ماذا يمنع حماس من أن ترشّح أحد قادتها للرئاسة في منافسة محمود عباس أو دحلان أو غيرهما، إذا كانت تؤمن باحترام إرادة الشعب. أعتقد أن من يطعن في قرار يدعو إلى الاحتكام للشعب ليس له علاقة بالشعب، فلو كانت حماس تؤمن بإرادة الشعب لأعربت عن تأييدها لقرار محمود عباس. كأن حماس تدرك أن الشعب لا يصوّت مرتين لشخص واحد إلا إذا تأكّد أن السلطة لم تنتزع منه "صفة المواطن". ويبدو لي أن الأحزاب الإسلامية في الوطن العربي همّها الوحيد هو انتزاع الاعتراف بها، أو "تذكرة" الدخول إلى "الغرف الليلية" للسلطة لتنزع عنها "الحجاب" وترتدي ما يستجيب لرغبات الحاكم. وإذا كانت هي الحاكم فإنها تنصّب نفسها "وصية على إرادة الشعب"، ولا تعود إليه أبدا. فلو كانت الجبهة الإسلامية التي أخذت أغلبية الأصوات في الاستحقاقات المحلية "12 جوان 1990" والاستحقاقات التشريعية في 26 ديسمبر 1991، تؤمن بإرادة الشعب، لما لجأت فئات منها إلى العنف، ولما أنشأت جناحا مسلحا أو تبنّت التفجيرات، ولو كان التيار الإسلامي الجزائري يريد تأسيس "خلافة إسلامية" أو إنشاء كتلة سياسية، لما كانت في الجزائر أكثر من أربعة أحزاب إسلامية لا يجمع بين أعضائها إلا "الصلوات الخمس". لو كان لنا تيار إسلامي حقيقي لكان عباسي وبلحاج ونحناح وجاب الله وسحنون وغيرهم يمثلون مجلس شورى إسلامي ومرجعية دينية، في حزب واحد. وأزعم أن الأحزاب الإسلامية الجزائرية أكثر تعايشا مع الأحزاب اللائكية أو الثرودسكية، من التعايش مع الأحزاب الإسلامية الأخرى. والدليل أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ فوّضت للحديث باسمها لويزة حنون رئيسة حزب العمال، وليس المرحوم محفوظ نحناح أو عبد الله جاب الله. أعتقد أن المشاريع الجديدة هي "التخلّي" عن الأحزاب الإسلامية أو إبعادها عن السلطة، لكن هل تستطيع السلطة إخراج الأحزاب الإسلامية من جسدها؟ المؤكد أن الانتخابات التشريعية القادمة ستعيد ترتيب "البيت السياسي الإسلامي" وستكون الغلبة ل "أمراء المال" حتى ولو كانوا إسلاميين. العربية لغة المهزومين إذا كانت حركة التعريف قد حققت، في عهد الحزب الواحد، خطوات جبارة على مستوى تعريب وزارات منها ومنها وزارة المالية والعدل والداخلية، فإن هذه الخطوات تراجعت، البعض أوزعها إلى تجميد قانون التعريب عام 1992، والبعض الآخر أعادها إلى سيطرة "المشروع التغريبي" على مسيرة التعددية. المشكلة أن التعريب خارج المنظومة التربوية ووزارتي العدل والداخلية لا وجود له، ومادام أصحاب القرار مايزالون يتمسكون ب "حب فرنسا"، فإنه من الصعب الذهاب بعيدا في التعريب، فالشارع الجزائري يتجه نحو الفرنسة، والمحيط بدأ يفقد ملامحه العربية والعربية لا تستطيع منافسة الفرنسية ما لم تدخل معركة "سوق العمل" و"فضاء الحب"، وتتدخل السلطة لتوقيف "مهزلة الفرنسة الإعلانية" لإنتاج بعض الوزارات" لقد جاءت "جيزي" بحملة تعريب وخدمت اللغة العربية، ولكنهم يريدونها أن تفرض وجودها ولو بمفردات "الدارجة"، والأمر نفسه بالنسبة ل "نجمة" أو الوطنية. المؤكد أن المنافسة على السوق الجزائرية جعلت اللغة العربية تتراجع عن مكانتها، لأن المستثمر العربي ما يزال يعتقد أن "الجزائر تفهم بالفرنسية". لا أشك مطلقا بأن الأحزاب الإسلامية لعبت دورا مهما في تكريس اللغة العربية، لكنني أشك في أن يكون للأحزاب الوطنية دور في التعريب، كما أشك مطلقا في أن الأحزاب اللائكية فتحت فضاءات واسعة بغير اللغة العربية. فسلطات الردّة على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي ستدفع بالجزائر إلى أن تكون "عاصمة" لغير العربية، وستكون "حيزا" يبحث عن فضاء يحرره من السياسة ومادامت سلطات الردّة في الجزائر تنخر في جسد الكيانات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية، فإنه من الصعب الخروج من الدهاليز دون دفع ثمن غال.