روى الإمام ابن عبد البرّ في كتابه "الاستيعاب" عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنّه قال: "إنّ الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد، صلّى الله عليه وآله وسلم، خير قلوب العباد، فاصطفاه وبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيّه يقاتلون عن دينه". الصّحابة هم حملة الدّين وحفظته بعد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ اصطفاهم الله لصحبة نبيه ونشر دينه، فأخرجوا من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، وعلى أيديهم سقطت عروش الكفر وتهاوت أصنام الشّرك. قوم رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنّات تجري تحتها الأنهار، وشهد لهم بذلك في كتابه الذي أحكمه وتعهّد بحفظه فقال: »وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم»، وقال: »لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا«، بعد نزول هذه الآية قال نبيّ الهدى عليه السّلام: "لا يدخل النّار أحد بايع تحت الشّجرة"، وكانوا يومها 1400 صحابي أو يزيدون، بايعوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم على النّصرة، فعلم الله ما في قلوبهم من الصّدق في نصرة دينه ونبيّه، فأنزل السّكينة عليهم وأمر رسوله عليه الصلاة والسّلام أن يبشّرهم بتحريم وجوههم على النّار. شهد لهم النبي عليه الصّلاة والسّلام بأنّهم خير النّاس فقال: "خير الناس قرني ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم" (رواه أحمد)، وشهد لهم بأنّهم أمَنة لهذه الأمّة فقال: "النّجوم أمنة للسّماء، فإذا ذهبت النّجوم أتى السّماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمّتي ما توعد" (رواه مسلم). ونهى صلوات ربّي وسلامه عليه أشدّ النّهي عن سبّهم وانتقاصهم فقال: "لا تسبّوا أصحابي، فلو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه" (رواه البخاري ومسلم)، وقال: "من سبّ أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين" (رواه الطبراني، وهو حسن بمجموع طرقه).. فيا الله!.. أيّ إثم تحمّله أولئك الذين امتلأت قلوبهم بالحقد على الصّحابة وسلّطوا ألسنتهم بالطّعن فيهم ولعنهم؟! وأيّ فلاح يرجوه من سيقف أولئك الأبرار يوم القيامة خصوما له بين يدي ربّ العالمين؟
ماذا وراء الطّعن في الصّحابة؟ إنّ الطّعن في الصّحابة ليس هدفا في حدّ ذاته، وإنّما هو وسيلة يُتوصّل بها إلى التّشكيك في القرآن الذي جمعوه وحفظوه، وفي السنّة التي رووها ونقلوها، بل والتّشكيك في كمال نبوّة خاتم الأنبياء عليه الصّلاة والسّلام، وهذا ما يسعى إليه أولئك المغرضون الذين اتخذوا أعراض الصّحابة سلّما يتوصّلون به إلى هدم الدين، وقد تفرّس فيهم إمام دار الهجرة الإمام الهمام مالك بن أنس عليه رحمة الله حينما قال: "إنّما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه حتى يقال رجل سوء، ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين". وقد صرّح بهذا الهدف أحد رؤوسهم قديما؛ روى الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" عن أبى داود السجستاني قال: "لما جاء هارون الرشيد بشاكر ليضرب عنقه قال هارون الرشيد: أخبرني، لِمَ تعلِّمون المتعلم منكم أول ما تعلمونه الرّفض (أي الطعن في الصحابة)؟ قال: إنا نريد الطعن على الناقلة، فإذا بطلت الناقلة؛ أوشك أن نبطل المنقول". أي أنّهم إذا شكّكوا في عدالة الصّحابة وأمانتهم شكّكوا بعد ذلك فيما نقلوه. ويكفي كلّ ذي لبّ لبيب أن يتساءل: لماذا يا ترى يركّز هؤلاء المغرضون هجماتهم الآثمة ويصوّبون سهامهم المسمومة تجاه الخلفاء الراشدين الذين جمعوا القرآن وفتحوا بلاد فارس والروم وكسروا كبرياء الأكاسرة وجبروت الأباطرة؟ لماذا يصوّبون سهامهم إلى أكثر الصّحابة رواية لحديث النبيّ- صلى الله عليه وآله وسلّم- كعائشة وأبي هريرة؟ لماذا يخصّون قادة الفتوحات من أمثال خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة بن الجراح وعمرو بن العاص، لماذا يخصّون هؤلاء بمزيد من التكفير واللعن والطعن؟
خذلان الطاعنين في الصّحابة لقد خذل الله الطّاعنين في الصّحابة وأملى لهم في غيّهم وأعمى أسماعهم وأبصارهم وختم على قلوبهم وعقولهم، فكانوا أضلّ من الذباب الذي يترك مواضع البرء والسّلامة ويبحث عن مواضع الجرح؛ تجد هؤلاء المتربّصين يُعرضون عن العشرات من الآيات والأحاديث التي تثني على الصّحابة، ويعرضون عن مواقفهم النّادرة والباهرة في نصرة الدين، ويبحثون في ركام الموضوعات والمكذوبات عن روايات وضعها المتربّصون للنّيل منهم. وإن انقضى العجب فإنّه لا ينقضي من طيش عقولهم يوم يجزمون أنّ الخميني نجح خلال 10 سنوات في إقامة دولته وتنشئة تلامذته، وينسبون إلى النبيّ- عليه الصّلاة والسّلام- من حيث لا يشعرون أنّه أمضى 23 سنة يدعو إلى الله وفشل في تربية جيل يحمل الإسلام من بعده، وهذا لازم قولهم إنّ الصّحابة ارتدّوا بعد النبيّ- صلّى الله عليه وآله وسلّم- إلا بضعة عشر. وحاشا نبيّ الهدى- عليه الصّلاة والسّلام- أعظم رجل وأعظم قائد وأعظم معلّم في تاريخ البشرية بشهادة المنصفين من المستشرقين فضلا عن غيرهم، أن يكون قد فشل في رسالته، وهو الذي ترك جيلا بلغ بالإسلام شرق الأرض وغربها. إنّنا وإن كنّا نأسى أشدّ الأسى للطّعن في خيار هذه الأمّة، فإنّنا على يقين أنّ طعن الطّاعنين فيهم هو منّة من الله على أولئك الأخيار ليثقل موازينهم، كما قالت أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها لمّا قيل لها: إنّ ناساً يتناولون أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى أبا بكر وعمر؟! قالت: "وما تعجبون من هذا؟ انقطع عنهم العمل فأحبّ الله أن لا ينقطع عنهم الأجر". لقد أحسن الإمام محمد بن صُبيح بن السماك- عليه رحمة الله- حين قال وهو يخاطب من أطلق لسانه في أعراض الصّحابة الأبرار: "قد علمتَ أنّ اليهود لا يسبّون أصحاب موسى عليه السّلام، وأنّ النصارى لا يسبّون أصحاب عيسى عليه السّلام، فما بالك يا جاهل سببت أصحاب محمد- صلّى الله عليه وسلّم-، وقد علمت من أين أُتيت؛ لم يشغلك ذنبك، أمَا لو شغلك ذنبك لخِفتَ ربك، لقد كان في ذنبك شغل عن المسيئين فكيف لم يشغلك عن المحسنين، أمَا لو كنت من المحسنين لما تناولت المسيئين ولرجوت لهم أرحم الراحمين، ولكنك من المسيئين، فمن ثمّ عبت الشهداء والصالحين، أيها العائب لأصحاب محمد- صلّى الله عليه وسلّم- لو نمت ليلك وأفطرت نهارك لكان خيرا لك من قيام ليلك وصوم نهارك مع سوء قولك في أصحاب محمد، فويحك! لا قيام ليلٍ ولا صوم نهار وأنت تتناول الأخيار، فأبشر بما ليس فيه البشرى إن لم تتب ممّا تسمع وترى".
ثناء أهل البيت على الخليفتين أبي بكر وعمر تواتر عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- أنّه كان يقول على منبر الكوفة: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر" (الإمام أحمد في المسند: 1 / 106، وابن أبي عاصم في السنة: ص556،...). وثبت عنه أنّه كان يقول: "لا أوتى برجل يفضّلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حدّ المفتري" (عبد الله بن أحمد في السنة: 02 / 562). ثبت عن الإمام محمد الباقر- رحمه الله- أنّه قال: "أجمع بنو فاطمة على أن يقولوا في أبي بكر وعمر أحسن ما يكون من القول". (ابن عساكر في تاريخ دمشق 15 / 355 ، والذهبي في السير 4 / 406). وعن الإمام جعفر الصادق- رحمه الله- قال: "برئَ الله ممن تبرّأ من أبي بكر وعمر" (سير أعلام النّبلاء: 06 / 260). قال الذهبي معقباً على هذا الأثر: "هذا القول متواتر عن جعفر الصادق".
هكذا رحل الخليفتان أبو بكر وعمر عن الدّنيا حينما حضرت أبا بكر الصدّيقَ الوفاةُ أراد أن يبرّئ ذمّته من مال المسلمين فقال لابنته عائشة: "أمَا إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارًا ولا درهمًا، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير، إلا هذا العبد الحبشي وهذا البعير الناضح، وجَرد هذه القطيفة، فإذا متّ فابعثي بها إلى عمر وابرئي منهنّ"، ففعلتْ. حجّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه حجّته الأخيرة، ولمّا نفر من منى رفع يديه إلى السّماء وقال: "اللهمّ قد كبرت سنّي وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مفرّط ولا مضيّع، اللهمّ ارزقني شهادة في سبيلك وميتة في بلد رسولك".. عاد إلى المدينة، وتوالت الأيام والأسابيع، حتى كانت آخر خطبة خطبها، ذكر فيها النبيّ- صلّى الله عليه وآله وسلّم- وأبا بكر- رضي الله عنه- ثمّ قال: "إنّي رأيت رؤيا لا أراها إلاّ حضور أجلي، رأيت كأنّ ديكا نقرني نقرتين". يقول عبد الله بن مسعود: "فلم أر يوما أكثر باكيا ولا حزينا من ذلك اليوم". وفي صباح يوم من أيام الله تقدّم الفاروق ليصلّي بالنّاس صلاة الفجر فما هو إلاّ أن كبّر وكبّر مَن خلفه حتّى سُمع وهو يقول: "قتلني الكلب".. امتدّت إليه يد من الأيادي التي لا تتحرّك إلاّ في الظّلام، يد آثمة، يد مجوسيّة ما سجدت لله سجدة، لتمزّق الأديم الطّاهر فيهوِي صريعا والدّم يثعب منه. أراد أن يتحلّل من الدّنيا فقال لابنه عبد الله: "انظر كم عليّ من الدّين؟"، فعدّوه فوجدوه 86 ألفا، ثمّ قال: "يا عبد الله، إن وفّاها مال آل عمر فوفّها من أموالهم، وإن لم تفِ فاسأل فيها بني عدي، فإن لم تفِ فاسأل فيها قريشا ولا تعدُهم إلى غيرهم". خليفة المسلمين وحاكم أقوى دولة في ذلك الزّمان، ميزانية الأمّة بين يديه، يموت ودينه يربو على ثمانين ألفا! أهذا الذي اغتصب الخلافة كما يقول المغرّر بهم من الشّيعة؟! ماذا نال من هذه الخلافة التي اغتصبها؟ وهل ترك شيئا من بهرجها لأهله؟