تضاربت التّأويلات حول الرّسالة الأخيرة التي بعث بها الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" إلى مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، بين مؤيّد لسياسات إيران يرى في الرّسالة اعترافا أمريكيا بالدّور المهمّ الذي تلعبه إيران في منطقة الشّرق الأوسط، ومحايد يرى فيها مجرّد مساومات تتعلّق بالمفاوضات الجارية حول الملفّ النووي الإيراني، بينما يذهب المعارضون للسياسات الإيرانية إلى أنّ هذه الرّسالة لم تأتِ بجديد لدى العارفين بخفايا العلاقات الأمريكيةالإيرانية، فهي ليست الأولى من نوعها، وليست أوّل قناة اتّصال بين أمريكاوإيران، فقد سبقتها رسائل أخرى، وسبقتها اتّصالات كثيرة بوساطة "الموالي" المزدوج لإيرانوأمريكا "نوري المالكي" ومن بعده رئيس الوزراء "حيدر العبادي"، وأخرى بوساطة المرجع الدينيّ العراقي المشهور علي السيستاني، المعروف بولائه لإيران من جهة، وبعلاقاته المتميّزة مع "بول بريمر" الحاكم الأمريكيّ السّابق للعراق، الذي لم ينس أن يشيد في مذكّراته بالدّور البارز الذي لعبه السيستاني في إسقاط نظام الرّئيس الرّاحل صدّام حسين. وجهة النّظر الأخيرة هذه تؤيّدها وقائع على الأرض، بلغت حدّ التّواتر، تشي بأنّ هناك تقاطعا واضحا بين السياسات الأمريكيةوالإيرانية في أكثر من ملفّ وعلى أكثر من صعيد.
على صعيد المشهدين العراقيّ والسّوري في العراق، تقف إيران في الصفّ الأمريكيّ الخليجيّ ضدّ تنظيم "الدّولة الإسلاميّة"، بتسليحها وتدريبها وتمويلها للمليشيات الشّيعية التي تدعم الجيش العراقي تحت مسمّى "لجان الحشد الشّعبي"، فضلا عن الدّور البارز الذي يلعبه الجنرال "قاسم سليماني" قائد فيلق القدسالإيراني، الذي يُعدّ القائد الفعليّ للقوات العراقية والمليشيات المؤيّدة لها في حربها ضدّ "داعش"، وهي المعطيات التي جعلت بعض المحلّلين يرون أنّ الدّور الذي تلعبه إيران على الأرض لا يقلّ أهمية عن الدّور الذي تقوم به قوات التحالف من الجوّ. * بعد أحداث ال11 سبتمبر 2001م، دخلت إيران في تنسيق غير معلن مع واشنطن وتنضمّ طوعاً إلى حملة الحرب على الإرهاب، بعد تلقّيها ضمانات بأنّ هذه الحملة لن تطال الجماعات والمليشيات الدّائرة في فلكها، علاوة على ضمان نصيبها المهمّ من غنائم مشروع الشّرق الأوسط الكبير. وفي سوريا، يقوم "حزب الله" الموالي قلبا وقالبا لإيران، والذي قال إنّه دخل سوريا لحماية ظهر المقاومة، بدور مهمّ في مساندة قوات بشار الأسد في حربها ضدّ فصائل المعارضة المسلّحة، وهي الحرب التي قالت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية بأنّ الإسرائيليين يصلّون سرا حتى لا تُسفِر عن سقوط بشار الأسد، ما جعل بعض المتابعين يومها يتهكّمون بالقول "إنّ إسرائيل اختارت أن تنضمّ إلى محور المانعة"؛ هاجسٌ إسرائيليّ عاد نائب وزير الخارجية الإيرانيّ حسين أمير عبد اللهيان، ليذكّر به المجتمع الدّوليّ، حينما حذّر بتاريخ 11 أكتوبر 2014 من أنّ سقوط نظام الأسد على يد تنظيم "داعش" من شأنه أن يقضي على أمن إسرائيل!، هذه القرائن وغيرها حَدَت بعض المحلّلين ليذهبوا بعيدا في القول بأنّ السّبب الأهمّ لتأخّر سقوط الأسد ليس الدّعم الذي يلقاه من "حزب الله" وإيران، وإنّما هو "الفيتو" الذي رفعته إسرائيل منذ البداية ضدّ أيّ محاولة جادّة لإسقاط الأسد لتحلّ محلّه التّنظيمات الجهاديّة، وهو الرّأي الذي يؤكّده سلوك قوات التّحالف التي تمرّ طائراتها فوق معسكرات بشّار الممانع و"حزب الله" المقاوم وعشرات المليشيات الإيرانية، لتقصف جماعات "داعش" و"النّصرة" و"أحرار الشّام"، المناوئة للنّظام السّوريّ.
على الصّعيد اليمنيّ الموقف الذي أبدته القوات الأمريكية في سوريا من المليشيات الإيرانية هو الموقف ذاته الذي تبديه في اليمن من جماعة الحوثيّ المدعومة من قبل طهران، حيث التقت مصلحة أمريكا ودول الخليج مع المصلحة الإيرانية في دعم الحوثيين؛ دول الخليج تتغاضى عنهم نكاية بتنظيم "القاعدة"، ونكايةً ب"الإخوان المسلمين" ممثّلين في حزب "الإصلاح"، الذي هاجم الحوثيون مقراته واقتحموا جامعة الإيمان التابعة له، وقتلوا عددا من الحرّاس الشّخصيين لمؤسّسه العلاّمة عبد المجيد الزّنداني. أمريكا، من جهتها، غضّت طرفها عن الحوثيين ورفضت تصنيفهم على لوائح الجماعات الإرهابيّة، وأوعزت إلى الرّئيس "عبد ربه منصور هادي" بعدم التعرّض لهم، ما جعل الجيش اليمني يعاملهم بمنطق "احتلّ مدينة واحصل على أخرى مجّانا"، ويقف معهم جنباً إلى جنب لقتال مسلحي القبائل و"القاعدة" في بعض المناطق. * هذه الحقيقة كشف عنها الكاتب الأمريكيّ "جورج فريدمان" حينما قال: "هل تعرفون ما هو أهمّ حدث عالميّ في بداية القرن الحادي والعشرين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر؟ إنّه التّحالف الأمريكيّ الإيرانيّ". ولم يكتف الأمريكيون بهذا وذاك، بل تدخّلوا عسكريا وقاموا بقصف مسلحي القبائل والقاعدة في كثير من نقاط اشتباكهم مع الحوثيين، ما جعل أتباع الحوثيّ الذين يرفعون شعار "الموت لأمريكا" يُمعنون في غضّ الطّرف عن السّفارة والجامعة الأمريكيتين، في مقابل اعتداءاتهم المتواصلة على مقارّ ومعاهد حزب "الإصلاح"، وعلى المساجد ومدارس تحفيظ القرآن.
على صعيد المشهد المصريّ في مصر، وقفت إيران في صفّ دول الخليج، وأبدت ميلا واضحا إلى الثورة المضادّة التي قادها عبد الفتاح السيسي على الرئيس المنتخب محمّد مرسي، ووقف المتشيّعون المصريون الموالون لإيران على الصّعيد نفسه الذي وقف عليه السلفيون الموالون للسّعودية، وانتهت الثّورة المضادّة بانقلاب الثالث من يوليو 2013، الذي سكتت عنه أمريكا وهللت له إسرائيل وباركته، وأبدت إيران من جهتها رضاها عنه، وبعثت مساعد وزير خارجيتها "حسين أمير عبد اللهيان" لحضور حفل تنصيب الرّئيس الجديد.
على صعيد المشهد اللّيبي أبدت إيران تأييدها لبرلمان طبرق والحكومة المنبثقة عنه، وأكّد ذلك المبعوثُ الخاصّ للرّئيس الإيراني "حسين أكبري" الذي قام بزيارة إلى مدينة البيضاء الليبية يوم الجمعة الموافق ل 07 نوفمبر 2014م، جاءت متزامنة مع قرار المحكمة العليا الليبية في طرابلس بحلّ برلمان وحكومة طبرق، وهو الموقف الذي جاء متناغما مع الموقف الأمريكي الخليجيّ المصريّ المؤيّد لهذه الحكومة التي توفّر الدّعم والغطاء للّواء المتقاعد خليفة حفتر في حملته التي يقودها للانقلاب على ثورة 17 فبراير التي أطاحت بالعقيد معمر القذافي.
وماذا بعد؟ هل أصبحت إيران منذ وصول "روحاني" لا تجد حرجا في الانضمام إلى المحور الذي طالما وصفته بأنّه "محور الشرّ" الحقيقيّ بقيادة "الشّيطان الأكبر"؟ أم أنّ المواقف الأخيرة لم تأتِ بجديد في سياسة طهران التي كانت ولا تزال ترى أنّ مصلحة الطائفة فوق أيّ اعتبار دينيّ أو أخلاقيّ، وهو ما جعلها تدخل بعد أحداث ال11 سبتمبر2001، في تنسيق غير معلن مع واشنطن وتنضمّ طوعا إلى حملة الحرب على الإرهاب، بعد تلقّيها ضمانات بأنّ هذه الحملة لن تطال الجماعات والمليشيات الدّائرة في فلكها، علاوة على ضمان نصيبها المهمّ من غنائم مشروع الشّرق الأوسط الكبير، وهي الحقيقة التي كشف عنها الكاتب الأمريكيّ "جورج فريدمان" حينما قال: "هل تعرفون ما هو أهمّ حدث عالميّ في بداية القرن الحادي والعشرين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر؟ إنّه التّحالف الأمريكيّ الإيرانيّ"، ولم يكن فريدمان هو الوحيد الذي أشار إلى هذه الحقيقة، فقد ألّف الدّكتور تريتا بارسي الذي ولد في إيران ويحمل الجنسية السويدية ويعيش في أمريكا كتابا يمثّل خلاصة بحثه في العلاقات الإيرانيةالأمريكية الإسرائيلية أسماه "التّحالف الغادر: العلاقات السريّة بين إيران والولايات المتّحدة وإسرائيل". بل إنّ بعض المتابعين يذهبون بعيدا ليتحدّثوا عن صفقات غير معلنة تزامنت مع قيام الثورة الإيرانية، أشار إلى بعضها الكاتبُ الشيعيّ الدّكتور "موسى الموسوي" في كتابه "الثّورة البائسة"، إذ نقل كثيرا من الوقائع الدّالة على التّنسيق الحاصل بين ثوار الخميني وبين أمريكا بقيادة كارتر، وتحدّث عن مسرحية احتجاز الرّهائن، وعن استعانة إيران الخميني بالسّلاح الإسرائيليّ في حربها ضدّ العراق.