لعل جبهات القتال في سورية تشهد أخطر مراحلها بعد أن اندفع آلاف المقاتلين من "لواء الفتح" من جهة الحدود التركية مع سوريا مزودين بأسلحة نوعية وصواريخ مضادة للطائرات، واستطاع المسلحون السيطرة على مساحات إضافية في محيط إدلب كما تمددوا إلى موقع استراتيجي يربط محافظات الشمال الغربي السوري، حيث مثل استيلاؤهم على جسر الشغور منعطفا جديدا في المواجهات المسلحة. ويبدو أن هناك محاولة للاندفاع نحو اللاذقية. أجل، بعد سنوات عديدة ثقيلة دامية من الصراع على الأرض السورية أودى بمئات آلاف القتلى وملايين النازحين واللاجئين وتدمير أحياء وتخريب مرافق عامة وضرب المجتمع والدولة في الصميم.. بعد هذه السنوات القاسية على سورية، أصبحت جردة الحساب تشير إلى ارتكاب جرائم في حق الإنسانية من قبل أطراف الصراع، ولعل ما تم نشره عن جرائم "داعش" و"النصرة" وفصائل مقاتلة أخرى والشبهات التي تحوم حولها، دعا الأطراف المعنية بالصراع في سورية إلى تغيير العناوين وطبيعة المهمة، فأصبح واضحا منذ عدة أشهر أن هناك إعدادا مركّزا على تكوين جيش في تركيا وتدريبه على أحسن الخطط والمناورات لكي يتمكن من حسم المعركة فورا، وكان عنوان "جيش الفتح".. وكان عنصر المفاجأة مُربكا للجيش السوري بعد انتشائه بتحقيق انتصارات على المجموعات المسلحة في حلب والغوطة ومحيط دمشق. السؤال هنا: لماذا في هذا الوقت؟ وما علاقة ما يحصل على الصعيدين الإقليمي والدولي؟ لماذا هذا الإصرار الأمريكي على تصعيد الموقف بسوريا وتأزيمه؟ ما علاقة ذلك بالوضع الفلسطيني حيث فشلُ المفاوضات واللبناني حيث الشلل السياسي؟ وما صلة ذلك كله بالمفاوضات الغربية الإيرانية حول الملف النووي؟ لقد عاد واضحا أن الإدارة الأمريكية التي تدير ملف المفاوضات مع إيران والتي تقرّ لها بحقها المشروط في النووي وبدور لها في المنطقة.. واضح تماما أن الإدارة الأمريكية ومنذ تسهيلها لبعض الشروط أمام إيران، إلا أنها أحبت أن تصنع حزام أمان لمشاريعها في المنطقة، وهذا الحزام يعني بوضوح هز صورة إيران في المنطقة وإفقادها مجالات حيوية.. والتحرك استباقا قبل رفع الحصار وتوقيع الاتفاق إلى فرض وقائع على الأرض تكون بمثابة مصدات أمام محاولة إيران تشكيل محور سياسي في المنطقة. من هنا، جاء التحرك في موضوع اليمن حيث لا يمكن فهم ما يحصل من حرب واسعة على اليمن دون إشارة أمريكية واضحة وتفاهمات عميقة مع دول الخليج، وهاهي الأمور تتجه إلى تقسيم حقيقي في اليمن: دولة سنية في الجنوب وحضرموت تمتلك باب المندب، وأخرى زيدية في الشمال محاصرة لا قيمة لها.. والآن يتم التحرك على الجبهة السورية لإسقاط الأسد أو على الأقل لإضعاف سورية إضعافا كبيرا يجعل من محاولة إيران لإنقاذها محاولة ميؤوسا منها، وعلى الضلع الآخر في العراق يتكشف الأمر الآن على أن الإدارة الأمريكية تريد إقامة إقليم سني في طور التشكّل كدولة يبدأ من الموصل إلى الحدود السعودية ويعتبر عازلا بين الإقليم الشيعي والأردن وسوريا. إن ما يحصل الآن في سورية هو بلا شك موجة جديدة من "عاصفة الحزم" وستستمر لتفرض واقعا سياسيا قد ينتهي إلى إقامة كيان سياسي سني ويحاصر العلويين في اللاذقية.. وهكذا نكون قد اقتربنا من شرق أوسط جديد بصياغة أمريكية تشتِّت مكوِّنات المنطقة وترهق أعصابها وتؤمِّن إسرائيل تأمينا استراتيجيا.. فهل يتحقق للأمريكان ما يريدون؟ التاريخ والمنطق والمستقبل يرفض ذلك لأنها أمة واحدة ومستقبلها لن يكون إلا واحدا.. تولانا الله برحمته.