يُحتفل بالجزائر في كل سنة بيوم الطالب الجزائري في 19 مايو أيار 1956، وهو يوم إعلان الطلاب الجزائريين في المدارس والجامعات الفرنسية عن التوقف عن الدراسة والالتحاق بالثورة الجزائرية، التي اندلعت في اليوم الأول من نوفمبر تشرير الثاني 1954، التحاق الطلبة هذا تم بعد تسعة عشر شهرا من اندلاع الثورة، بينما التحق بها طلاب اللغة العربية منذ اندلاعها. في البداية أوضح أن الثورة أدركتني وأنا طالب بجامعة القاهرة، تدربت على السلاح وقررت الدخول والانضمام إلى جيش التحرير، لكن أحمد بن بلّه احتفظ بي وعينني الأمين الدائم لمكتب جيش التحرير بالقاهرة الذي كان يشرف على تدريب الشبان الجزائريين عسكريا في المعسكرات المصرية. إحدى وستون سنة مرت على اندلاع الثورة، ولا بد من مراجعة التاريخ وتصحيح الأخطاء، وتقييم وتقويم الأحداث، حتى لا تنشأ الأجيال الصاعدة على الأخطاء. أولا: تصحيح تاريخ انضمام الطالب الجزائري للثورة، ينبغي التوقف عن اعتباره يوم 19 مايو أيار 1956 تاريخ انضمام الطالب الجزائري للثورة، هذا يعتبر سُبّة في جبين الطالب الجزائري. الحقيقة هي أن انضمام الطالب الجزائري للثورة تم منذ اندلاعها، فئة من الطلبة وهم طلاب المدارس الفرنسية تأخرت. انضمام الطالب هذا المبكر شمل المعرب والمفرنس، لكن انضمام الطالب المعرب كان أكثر وضوحا، لا لأنه أكثر وطنية، حاشا، لكن لأنه كان مضطرا للصعود للجبال لأنه لو لم يفعل لاعتقل، لأن طالب اللغة العربية عند السلطة الاستعمارية كان يعتبر مشبوها، يعتقل عند اندلاع أية حوادث. قال الأمير خالد في رسالة وجهها لصديقه الفرنسي التقدمي (سبيلمان): "الأمل في الفلاح الجزائري، على يده سيكون الخلاص من الاستعمار، لا على يد سكان المدن الملوثين بالمدرسة الكولونيالية". وقد تحققت نبوءة الأمير خالد فتأسس جيش التحرير الوطني في سنواته الأولى من الفلاحين مؤطرين من طلاب اللغة العربية، ثم إن طالب اللغة العربية في ذلك الوقت كان يحفظ القرآن الكريم متفقها في الدين وهذا يفيد في تحريك الجماهير وتجنيدها للثورة، فالذي يحفظ حزب (عمَّ يتساءلون) قادرٌ على تجنيد الجماهير أكثر من حامل دكتوراه الدولة من جامعة الجزائر أو من السربون. وقد سجلتُ أكثر من تسعين اسما من طلاب العربية من مدارس جمعية العلماء، وحزب الشعب، والكتانية، والزيتونة، والزوايا، انضموا للثورة منذ عهدها الأول. كان أول طالب سقط شهيدا هو قاسم زدّور طالب من جامعة القاهرة وهو من وهران، لقد نشرت قصة استشهاده صحيفة "الإكسبريس" الفرنسية عدد 10/11/1955، وذكرت أنه تخرج سنة 1954 في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وذكرت أنه ألقي عليه القبض في 3 نوفمبر 1954. وقد رثيتُه بمقال نشر في مجلة "الآداب" اللبنانية عدد فبراير 1956. وقد بثت قناة التلفزة الثالثة قبل أسابيع فيلما وثائقيا عن نضاله واستشهاده. لماذا لا يعتبر يوم استشهاده يوم الطالب الجزائري؟ ليس من الصدفة أن قائد جيش التحرير الوطني الهواري بومدين (محمد بوخروبة) طالب بمدرسة الكتانية بقسنطينة والأزهر الشريف بالقاهرة. هل أن الذي يكتب من اليمين إلى اليسار لا يعتبر طالبا؟ 19 مايو 1956 حدثٌ في تاريخ الطلبة، واعتباره يوما للطالب خطأ. وإلى القراء ما تحضره الذاكرة من هؤلاء الطلبة المعربين الأوائل والذين سجل بعضهم الكتاب التوثيقي الجيد الصادر بباتنة سنة 2007 بعنوان (دور جمعية العلماء في منطقة الأوراس)، وهم: الهاشمي حمادي. علي عليّة. والوردي قتال. بلقاسم عالية. محمد علاق. زرعي الطاهر. زرايقية الصادق. نوار جدواني. محمد الربعي يونس. محمود فتني. بوازدية التومي. الطاهر حواس. الطاهر زعروري. حسين مخازنية. عبد الكريم عباس. أفراوي أحمد، محمود الواعي، ابن عبيد مصطفى، صالح دوادي، وزاني بلقاسم، بخوش محمد، الهادي حمدادو، الصديق بخوش، غنام عبد الحميد، طويل الطاهر، دوادي الجودي، السعيد عبادو، درياس يوسف، درياس أحمد، بوكريشة الصادق، قالة عبد المجيد، مسعود بوبكر، وزاني لخضر، معاش أحمد، عزوي محمد الطاهر، سعاده محمد، شعباني محمد، الهادي درواز، الصادق برباري، محمد خروبي، علي سواعي، محمد بوخروبة، عطية عبد الرحمن، محمد درفوف، ملوح محمد، فرحات نجاحي، حمودة عاشوري، معاش عبد الحميد، بودوح السبتي، منصوري محمد، إبراهيم مزهودي، محمد الصالح يحياوي، هلايلي محمد، تاغليسية محمد، عثمان سعدي، محمدي عبد الحميد، العيد مسعود، فيلالي مختار، العربي مومن. دراس علي. محمد الطاهرمسعودي. نوار (شهيد). محمد عيسى الباي. لخضر بوطمين. أحمد طرخوش. محمد شاكري. علي شكري. علي زرفاوي. محمد دريدي. محمد رايس. محمد صبوع. محمد بوالنور. عيسى دهان. خضير دهان. عمر دبابي. أحمد عبد اللاوي. أحمد كمام. محمد شعباني. حفناوي هالي. محمد رشاد بوزاهر. أحمد عرفي. عبد السلام برجان. عبد الحميد بوذن. الأخضر الوزاني. محمد رشاد بوزاهر. عبد المجيد بن غزال. محمد كمام. وغيرهم. وليس صدفة أن يأتي محمد بوخروبة [الهواري بومدين] تلميذ مدرسة الكتانية بقسنطينة على رأس جيش التحرير الوطني. وقد شهد الضباط الفرنسيون بقوة جيش التحرير في سنواته الأولى مثل ما ورد في كتاب: (إسناد ناري على واد هلال: المغامرة المعاشة)، للطيار بيير كلوسترمان P.Clostermann . vecue Appui-Feu sur L_oued Hallail l_aventure ) Flammarion _ Paris 1960 ) يعتبر هذا الكتاب من أهم الكتب التي صدرت تصف حرب الجزائر ويخاصة على الأوراس اللمامشة. مؤلفه طيار فرنسي حارب بالحرب العالمية الثانية في سماء أوروبا، وبالفييتنام، يقول عنه الجنرال ديغول: "هو ضابط سام، طيار مطارد مؤثر حاصل على أوسمة لامعة.. تطوع وهو ضابط احتياط للخدمة في الجزائر في إطار عمليات [حفظ النظام]، كان دائما يتطوع لخوض أكثر المعارك خطورة، حيث كانت طائرته في عدة مرات تصاب بطلقات الخارجين على القانون". عمل بالجزائر سنتي 1956 و1957، ركّز في معاركه على ترديد اسم المجاهد الكبير الأزهر شريّط وعلى مقر قيادته في شڤة اليهودي بواد هلال، ويسمي كتابه بهذا الوادي. يصف جبال اللمامشة بإعجاب يشوبه خوفٌ ورعب. يتبين أن المؤلف أديب له أسلوب شاعري، تحكمه مشاعر إنسانية تدفعه إلى أن يحترم ويقدّر خصمه.. ويبدو من خلال تصدّر كتابه بنص لألبير كامو أنه لا يؤمن بالحروب، ونص كامو: "يكفي أن تقود الحركة إلى الموت لكي تلمس رجالا: والتي تسمى العبث..". يقول كلوسترمان: "إن الذين قتلوا من شباب الخدمة الوطنية الفرنسية في السنتين اللتين عملتُ فيهما بالجزائر ثلاثة عشر ألف (13000) شاب قتلوا في هذه العمليات العسكرية العقيمة، الغامضة، وغير المشجعة".[صفحة 7]. كما ذكر العقيد بيجار معركة الجديدة التي دارت في يونيو 1956، التي كان الجيش الفرنسي بها بقيادة ثلاثة جنرالات والعقيد بيجار، وقادها من طرف المجاهدين عباس لغرور الذي كان يقود خمسة وسبعين (75) مجاهدا حوصروا من طرف قوات كبيرة بينها فيلق العقيد بيجار المشهور. وصف العقيد بيجار المعركة .في كتابه: من أجل قطعة صغيرة من المجد parcelle de gloire, Plon 1975 : Pour une Bigeard : ثانيا: قبل 1956 كانت توجد تنظيمات للطلبة الجزائريين: في تونس منذ الأربعينيات برئاسة عبد المحميد مهري، وفي القاهرة والمشرق العربي منذ الخمسينيات. مثلا أول وفد للطلبة الجزائريين مثل جبهة التحرير الوطني في تظاهرة دولية تكوّن من رابطة الطلبة الجزائريينبالقاهرة، وقد ترأستُ أنا هذا الوفد الذي شارك في مهرجان الشباب الخامس بفرصوفيا عاصمة بولونيا الذي عقد في أغسطس آب 1955 . وقصة هذا الوفد كما يلي: استدعاني أحمد بن بلّه وأمرني بتأليف الوفد والاستعداد للتوجه لبولونيا، وطلب مني الاتصال بحسين آيت احمد لتزويد الوفد بالوثائق والتوجيهات. عقد آيت أحمد جلسة معي وزودني بالوثائق التي وزعها الوفد الجزائري في مؤتمر باندونغ الذي عقد بأندنوسيا في أفريل 1955. توجه الوفد إلى فرصوفيا رفقة الوفد الطلابي الفلسطيني برئاسة ياسر عرفات، وبقرار من رئاسة المهرجان ضُمّ وفدنا لبعثة الشباب الجزائري الذي حضر من الجزائر وفرنسا بقيادة مصطفى كاتب من الحزب الشيوعي الجزائري بتعداد 230 شابا وشابة بينهم يهود وفرنسيون. وقد حضر من باريس معهم مصطفى الأشرف وبعض الشبان الذين سيصيرون بعد مايو 1956 في قيادة اتحاد الطلبة الجزائريين. استقبلني مصطفى كاتب فقدّمت له العلم الجزائري والوثائق التي أحضرتها من القاهرة. وأخبرني أن البعثة ستتظاهر ليس بالعلم الجزائري وإنما بقطعة من المخمل الأحمر مكتوب عليها بالفرنسية الشباب الجزائري، وأن البعثة غير مستعدة لتوزيع الوثيقة التي وزعها وفد جبهة التحرير الوطني في مؤتمر باندونغ بعنوان (ما هي الجزائر؟) باللغة العربية والفرنسية والإنجليزية، والإسبانية، ومن الغريب أن مصطفى الأشرف كان حاضرا مع مصطفى كاتب ولم يتكلم.. وهكذا لم يستعرض الجزائريون بالعلم الجزائري، بينما استعرض الفلسطينيون برئاسة ياسر عرفات بالعلم الفلسطيني. أما الوثائق التي أحضرناها من القاهرة فقد وزعتُها عن طريق الوفد الفلسطيني والوفد المصري... أيعقل أن يُسجَّل أن الطالب الجزائري لم ينضم للثورة إلا بعد 19 شهرا من اندلاعها؟، هذا عبث في عبث وتزييف للتاريخ. ثالثا: طلبة اللغة الفرنسية المضربون سنة 1956 سيطروا على الجهاز الخارجي للثورة، وكونوا إدارة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائريةبالقاهرة سنة 1958، بدل أن يؤسسوا نواة لإدارة الدولة الجزائرية باللغة الوطنية، كما فعل الفييتناميون بالصين، كونوها بالفرنسية في القاهرة. بدل ان يستغلوا سنوات إقامتهم بالقاهرة ودمشق فيتعلمون العربية، تعلموا الإنجليزية والإسبانية. وتوّجوا ذلك بأن وقعوا اتفاقيات إيفيان التي أنهت الاستعمار الفرنسي في الجزائر بنص واحد هو النص الفرنسي، مثّل الوفدين الجزائري والفرنسي؛ بينما وقع الفييتناميون اتفاقية جنيف سنة 1954 التي أنهت الاستعمار الفرنسي باللغتين الفرنسية والفييتنامية، وحولوا الثورة من ثورة شعبية إلى ثورة فرنكفونية. ثم دخلوا الجزائر المستقلة فكونوا الدولة الفرنكفونية التي لا زال الشعب الجزائري يعاني منها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، لأن الاستقلال أساسه السيادة، والسيادة أساسها الهُوية الوطنية، ومفتاح الهوية اللغة الوطنية أي اللغة العربية. الخلاصة: أولا: عرضنا كيف كانت الثورة في سنواتها الأولى تتكون من الفلاحين المؤطرين بطلاب اللغة العربية، كانت تسيّر باللغة العربية، ويتغنى بها شعراء الملحون الفلاحون بالعربية بعشرات الآلاف من الأبيات. ويشهد الطيار الفرنسي كلوسترمان أنه في السنتين اللتين عمل فيهما بولاية أوراس اللمامشة، قُتل من شباب الخدمة الوطنية الفرنسية ثلاثة عشر ألف (13000) شاب، بالإضافة إلى قتلى المتطوعين من اللفيف الأجنبي وغيره. ثانيا: بعد السنوات الثلاث الأولى حدث الانحراف؛ إذ التحق المفرنسون بالحكومة المؤقتة بالقاهرة وكونوا إدارتها باللغة الفرنسية، وخرج قادة سيطروا على القيادة، وهرب ضباطٌ من الجيش الفرنسي انضموا للثورة، وصارت الثورة فرنكفونية. وأعدم بتونس القائدان اللذان ذكرهما بيجار وكلوسترمان: الأزهر شريّط وعباس لغرور وغيرهم... ولنذكّر بأن القائد الكبير العقيد عميروش كان قبل الثورة ممثلا في باريس لجمعية العلماء، وكان في الولاية الثالثة بصفته قائدا لها يمنع التحدّث بين المجاهدين باللغة الفرنسية. ثالثا: أوقف القتال وتكونت الدولة الجزائرية الفرنكفونية بتهميش لغة البلاد والعباد، وتحول الاستقلال خاليا من المضمون، وباقتصاد تابع للاقتصاد الفرنسي، لأنه لم يحدّثنا التاريخ أبدا أن تنمية اقتصادية واجتماعية ناجحة تحققت بلغة أجنبية. وأكرر ما سبق أن كتبته، بأن القرن العشرين عرف أعظم ثورتين هما ثورة الجزائر وثورة الفييتنام. وأي ثورة لا تعتبر نفسها ناجحة إلا إذا حققت هدفين: تحرير الأرض وتحرير الذات. الثورة الفييتنامية حققتهما معا بتطبيق فتْنَمة فورية شاملة، وبالتخلص من اللغة الفرنسية تخلصا من سائر الرواسب التي تركتها في الذات الفييتنامية طوال 86 سنة؛ أما الثورة الجزائرية فقد أجهضها المفرنسون، فحققت تحرير الأرض فقط، تاركة الذات مستعمرة فرنسية، ولا زالت حتى الآن كذلك، وكوّن المفرنسون المُجهِضون لها الدولة الجزائرية الفركفونية التي أفلست اقتصاد الجزائر، فمداخيل البتروت تمثل 97 % من مداخيل الجزائر. قمت بمقارنة بين الفييتنام والجزائر سنة 2011 فوجدت أن الفييتنام بالفتْنَمة صدّر خارج المحروقات مواد زراعية وصناعية بما قيمته أربعة وثلاثون (34) مليار دولار، بينما صدرت الجزائر بالفرنسة خارج المحروقات بما قيمته ملياران أي (2 مليار) دولار جلها موادها الأولية مستوردة بالعملة الصعبة مثل الزيت والسكر والخردة. وأي بلد يقاس بما ينتج وليس كيف ينطق الراء غينا.. علماً بأن النفط الجزائري مآله النفاد بعد ستة عشر سنة فقط من الآن، وفقاً لتقويم الخبراء الجزائريين الدوليين. وهكذا تترك الأجيال المقبلة الجزائرية للضياع بسبب الفرنكفونية واللوبي الفرنكفوني المتحكم في الدولة الجزائرية. ** سفير سابق وكاتب