رأينا في كلمة الخميس الماضي أن "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" أكدت على لساني رئيسيها الأولين الإمامين ابن باديس والإبراهيمي بأنصع بيان وأفصح لسان أن الإسلام كما هي حقيقته دين شامل لكل نشاط إنساني، وفي مقدمة هذا النشاط "السياسة" فكرا وممارسة، وإن أكبر دليل وأقطع برهان على ممارسة جمعية العلماء للسياسة وليس البوليتيك هو بطش السلطات الفرنسية بأعضائها سجنا، ونفيا، وتغريما، ومنعا للتجمعات، وإيقافا للصحف، وغلقا للمدارس والنوادي.. وإذا كانت الجمعية قد صرحت في قانونها الأساسي بأنها ليست سياسية فذلك من باب المراوغة للسلطات الفرنسية، ولو أعلنت أنها جمعية سياسية لما رخص لها، ولذهب على الجزائريين خير كثير وفوائد جمة، ولكن بعض قومنا لا يفهمون أو لا يحبون أن يفهموا، وقديما قيل: »وماذا عليّ إن لم تفهم البقر". إن النقطة الوحيدة التي أخذ ويؤاخذ عليها المؤاخذون "جمعية العلماء" هي دعوتها على لسان الإمام ابن باديس لما عرف في تاريخنا باسم "المؤتمر الإسلامي" الذي عقد في صائفة 1936. ومن أسف أن يكون الأستاذ مالك ابن نبي وهو ذو الفكر السديد، والرأي الرشيد، والنظر البعيد ضمن هؤلاء المؤاخذين، وصدق سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام القائل: "كل بني آدم خطاءون...". كان بعض الجزائريين من ذوي الثقافة الفرنسية خاصة يؤمنون ب"الإندماج" في فرنسا ويناضلون من أجله، ويرون ذلك "فردوسا أرضيا"، وكان أهم ما تتمسك به فرنسا لرفض مطلب أولئك الجزائريين هو تمسكهم بالشريعة الإسلامية في أحوالهم الشخصية من زواج، وميراث ونسب، وطلاق، وهبة... وذلك ما بقي لنا من أحكام الإسلام. في سنة 1935 جاء وزير الداخلية الفرنسي إلى الجزائر واستقبل اثنين من السياسيين الجزائريين هما فرحات عباس، وابن جلول، حيث صرح أولهما قائلا: "شرحت للوزير ما قلته وأقوله دائما.. لأبرهن له على أنه لم يبق الآن إلا طريق الإندماج وذوبان العنصر الأهلي في المجتمع الفرنسي، وقد اعترض الوزير بمسألة الحالة الشخصية، فأجبته بأنه إذا أمكن إدماجنا مع إبقائها فإننا سنعترف بجميل فرنسا، وإن لم يمكن ذلك فالمتنورون يقبلون الإندماج الجبري في الوطنية الفرنسية مع فقدان الأحوال الشخصية". (جريدة الأمة في 19 مارس 1935)، كما صرح ثانيهما بقوله: "إن العناية المقصودة من عملنا هو الإندماج التام، والذوبان النهائي ضمن الجنسية الفرنسية". (المصدر نفسه). كان هم قادة الجمعية هو توحيد كلمة الجزائريين وتوحيد صفهم، والتقاؤهم ولو على حد أدنى من العمل المشترك، فدعا الإمام ابن باديس إلى عقد مؤتمر يشترك فيه الجزائريون لمناقشة أمورهم، وغاب عنه مناضلو حزب "نجم شمال إفريقيا"، لأن نشاطهم كان محصورا في فرنسا، ولم يكن قد دخل حتى ذلك الحيز إلى الجزائر، ورفضه من لا يعصون فرنسا ما أمرتهم، ويفعلون ما يؤمرون، من شيوخ الزوايا والأئمة الرسميين، وعقد المؤتمر في صائفة سنة 1936. قدمت لفرنسا عدة مطالب اجتماعية واقتصادية وتعليمية لم يُعترض عليها، وقدم لنا مطلبان سياسيان هما: إلحاق الجزائربفرنسا، وانتخاب ممثلين للجزائر في البرلمان الفرنسي، وكان المطلب الأول يهدف إلى "تحجيم سطوة" "الكولون" ماليا، لأن الجزائر كانت مستقلة ماليا.. منذ أوائل القرن العشرين عن فرنسا، ولا ينال الجزائريون إلا أقل من الفتات، وكان المطلب الثاني يهدف إلى إسماع صوت الشعب الجزائري إلى المسؤولين والرأي العام في فرنسا.. وهذان المطلبان هما اللذان اعترض عليهما ميصالي الحاج، الذي أعطى له الكلمة الإمام ابن باديس في الملعب البلدي بعد عودة الوفد من فرنسا. زعم ميصالي الحاج وجماعته إلى "المؤتمر" و"الجمعية" طلب الإندماج، ونسب لميصالي الحاج أنه رفع كمشة من التراب (!) هل أخذها في جيبه، أم حملها في "ساشي" وصاح: "هذا التراب ليس للبيع"(!!) ولكنه عندما جد الجد نكص على عقبيه، وعانت الثورة بسببه ما عانت من الخسائر، فأما مسألة "بيع التراب الجزائري" فكيف يفعلها من يقول: "إن الصلاة وراء إمام تعينه فرنسا لا تجوز"، ومن يقول: "مسألة واحدة يعد التساهل أو الغلط فيها جريمة، بل كفرا، وهي مسألة الحقوق الشخصية الإسلامية" (الشهاب جويلية 1936)، وذلك في انتظار تحقيق المبدإ الصحيح، وهو: "إن الحقوق التي أخذت اغتصابا لا تسترجع إلا غلابا". (الشهاب أكتوبر 1936). وأما تمثيل الجزائريين في البرلمان الفرنسي فإن من عارضوه آنذاك -صاروا بعد عشر سنين، بعد أن كفر به كل الناس- يلهثون وراءه. إن الفرنسيين رغم معرفتهم بأن مطالب الجزائريين في المؤتمر الإسلامي ليست محققة لآمالهم، ولكنهم أدركوا أن أخطر ما تم هو اجتماع كلمة الجزائريين وتوحيد صفهم، فعقدوا العزم على إفشال المؤتمر، فدبروا مكيدة اغتيال أحد المؤتمرين بأمرهم (الشيخ كحول)، ثم اتهموا الشيخ الطيب العقبي والسيد عباس التركي باغتياله، لما بينه وبين جمعية العلماء من شنآن. وأذكر مرة أخرى بكلمة المناضل عمار وزڤان في كتابه "الجهاد الأفضل" عن الإمام ابن باديس وهو: "إنه كان ثوريا خالصا، ولكنه لم يكن يطلب من أية مرحلة فوق ما تطيق".