عندما كنت أعيش في الغربة على مدى أكثر من عقدين من الزمان كنت أظن أن مصدر تخلف جزائر ما بعد الاستقلال هو نتاج لتخلف السياسة وقصور عقل السياسيين، ولكنني بعد عودتي إلى الوطن وبقائي فيه سبع سنوات تقريبا قضيتها كلها في فحص شتى التعبيرات التي يعبر بها الوعي الجزائري عن نفسه ويشتق منه السلوك الفردي والجماعي أدركت أن المشكلة مركبة وعويصة فعلا وأنها ليست سياسية إجرائية بحتة وإنما هي ظاهرة التخلف الثقافي والفكري والعلمي والفني بكل حمولته النفسية المعقدة. ومن هنا أدركت وعلى نحو متزامن أنه لا يمكن بناء سياسة عصرية من دون قاعدة جمالية متطورة، وقيادة ثقافية وفكرية متحضرة ومتقدمة ومؤسسة على عناصر التقدم المشكلة للهوية الوطنية في علاقتها الحوارية الناضجة مع مكاسب تقدم الثقافات والعلوم والفنون والحضارات العالمية وفي صلبها حضارات جماليات المعمار. وفي الحقيقة فإن المثقفين في الجزائر لم ينتجوا إلى يومنا هذا فكر وثقافة الجماليات ذات الصلة المباشرة بالمحيط الاجتماعي، والنفسي، والسياسي ماعدا بعض الإشارات القليلة التي وفرها المفكر مالك بن نبي وأطلق عليها مصطلح "التوجيه الجمالي" دون أن يرفق ذلك بدراسات نظرية مؤسسة على نسق متكامل وعلى تحليل الشخصية القاعدية للهوية الجزائرية، وببرنامج تطبيقي يبرز لنا المبادئ الأساسية للفكر الجمالي الجزائري، والتصورات الجمالية لما ينبغي أن يكون عليه معمار المدن، والقرى، والسلوك الأخلاقي للمواطنين والمواطنات، ومجمل فضاء المحيط العام بكامله بما في ذلك معمار العقل الإداري، السياسي، والنفسي. إنه صحيح أن الجمال هو أحد مقومات الثقافة، أن "الإطار الحضاري بكل محتوياته متصل بذوق الجمال، بل إن الجمال هو الإطار الذي تتكون فيه أي حضارة، فينبغي أن نلاحظه في أنفسنا، وأن نتمثل في شوارعنا وبيوتنا ومقاهينا مسحة الجمال نفسها التي يرسمها مخرج رواية في منظر سينمائي أو مسرحي. يجب أن يثيرنا أقل نشاز في الأصوات والروائح والألوان كما يثيرنا منظر مسرحي سيئ الأداء، كما يؤكد بن نبي نفسه الذي قدم هذه النصيحة: "إن الجمال هو وجه الوطن في العالم، فلنحفظ وجهنا كي نحفظ كرامتنا، ونفرض احترامنا على جيراننا الذين ندين لهم بالاحترام نفسه". إن غياب الوازع الجمالي في بلادنا على المستوى النظري والعملي معا يذكرني بملاحظة صائبة أبدتها أمامي مثقفة أمريكية زارت الجزائر منذ عامين مفادها أن الجزائر تفتقد إلى مفهوم البنية على جميع المستويات وفي مقدمتها البنية المعمارية الجمالية. في هذا السياق قد لاحظت منذ مدة قصيرة أثناء زيارة لي لمنطقة المسيلة التي تعتبر بوابة الصحراء الجزائرية التي تزخر بالثروات الطبيعية الهائلة، وبالآثار التاريخية والحضارية المنسية. في هذه الولاية التاريخية التي كانت يوما عاصمة للدولة الحمادية المزدهرة في الماضي البعيد، صدمني بؤس معمارها الجديد الكارثي الذي لا يعد حالة استثنائية لأن تقليد ثقافة "القربي" المعماري، والسياسي، والسلوكي هي التي خلقت التجمعات السكانية البشعة في الجزائر منذ الاستقلال إلى يومنا هذا وبشكل عام من التوحش والفوضى وشتى مظاهر البدائية الشرسة. إنه باستثناء بقايا علامات المعمار الذي تركه العهد الروماني، والفينيقي، والإسلامي القديم، وخلفته فرنسا وراءها بعد انسحاب جيوشها ومعمريها الأوروبيين من الجزائر، والذي يتعرض بدوره الأن للإتلاف، والتحطيم المنهجي، وعدم التجديد والتحديث والصيانة، فإن المباني التي شيدت في فترة الاستقلال لا علاقة لها بالهوية الثقافية الجزائرية الوطنية من قريب أو من بعيد. والأدهى والأمر هو غياب الابعاد الوظيفية الحداثية، والجمالية المتطورة، وفنيات العمارة الجميلة التي تمثل أحد الأسس الصلبة للحضارة المتقدمة. إن الأسلوب المعماري المقحم على الفضاء الاجتماعي الجزائري، والذي ينفذ الآن تنفيذا بدائيا مخلا بمبادئ وأبجديات الحس البشري السويَ، لا علاقة له بالموروث المعماري الانساني القديم والحديث معا مثل فنون العمارة الرمزية، والكلاسيكية، والرومانسية التي يصنفها علماء وفلاسفة الجماليات المعمارية ويعتبرونها بمثابة الوجه الحضاري للإنسانية. من الناحية الوظيفية فإن المباني السكنية التي تحشر في المدن والأرياف الجزائرية على أنقاض الأراضي الصالحة للزراعة تمثل فعلا كارثة كبيرة وهي بذلك تؤسس لمجتمع فوضوي، وعنيف، وخال من الروابط الاجتماعية بأبعادها الروحية والاخلاقية العالية، ومن الشعور بالانتماء، فضلا عن خطرها على الأجيال القادمة التي سترث خرابا معماريا سينتج لامحالة في المستقبل ثقافة التوحش وسلوك العصر الحجري. من الناحية الوظيفية فإن أشباح ركام الإسمنت والحديد التي ترفع هنا وهناك في شكل بنايات سكنية لا يتوفر فيها التناسق في الاحجام، واللون المناسب لتنوع طبيعة البلاد، وللبشرة البشرية الجزائرية ولا تراعى فيها الشروط الأولية لمنزل مريح يمكن أن يصبح مكانا يهيئ الفرد للإبداع، ويشكل شخصيته تشكيلا يضمن السلامة العقلية، والازدهار النفسي للناس. من الناحية الوظيفية دائما فإنه لا يعقل أبدا بناء عمارة مشوهة فنيا من أكثر من خمسة طواق، ولها مدخل واحد ضيق، ومظلم غالبا، ولا تتوفر على فضاء تخزين النفايات بشكل حضاري، وحفظ بريد السكان، وعلى المصاعد التي تنقل المسنين والمسنَات والأطفال الصغار، والنساء الحوامل، والمرضى بسلاسة إلى شققهم دون عناء وفي مناخ من الاريحية. إن عددا من النساء الحوامل والمسنين والأطفال في الجزائر يخافون يوميا من الصعود إلى منازلهم التي توجد في الطوابق العالية وجراء ذلك فقد تولد لدى هؤلاء رهَاب العمارات. في ظل هذا المناخ المعماري البدائي والوحشي يمكن أن نفهم جيدا أن الخراب المعماري السائد في الجزائر بعد الاستقلال ليس سوى ترجمة محزنة للخراب النفسي للمشرفين على مشاريع البناء ومع الأسف فإن هذا الخراب يعمم الآن على المواطنين والمواطنات في المدن وفي القرى وهو ظاهرة عنف الذي يؤسس لمجتمع الفوضى الوحشية.