قال ربنا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.... تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" البقرة: 183187 * أخي القارئ: أهنئك على أن الله أبقاك لحضور هذا الموسم العظيم لتتزود منه لليوم العظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين، واعلم أنه قد لا يعود عليك هذا الشهر إلا وأنت تحت الأرض، فاغتنمه وفز بعتق رقبتك من النار. اللهم اعتق رقابنا من النار. * آيات الصيام افتتحت بالنداء الذي يدل على الاهتمام ويدعو إليه، فالمنادِي نادى لأمر عظيم، والمنادَى يجب عليه أن يهتم بما نودي من أجله، فقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ..." فمن ناداك؟ ولم ناداك؟ وما موقفك من هذا النداء. * فأما من ناداك فهو ربك، خالقك العظيم، والعظيم لا يناديك إلا للأمر العظيم، ولقد اعتاد الناس أن يهتموا بنداءات العظماء، فإن قريشا "مثلا" لما سمعت نداء محمد الأمين (ص) الرجل المعظم عندها من أعلا الصفا: يا بني فلان يا بني فلان قالت: الأمين ينادي. الأمين ينادي لأنها علمت أن الأمين لا ينادي إلا لأمر هام فاهتمت لذلك وأسرعت للحضور. ومن لم يستطع الحضور أرسل من يأتيه بخبر النداء. * وأما المنادَى فإنه أنت أخي المؤمن، ومن أنت سواء في نفسك أو بالنسبة لمن ناداك؟ فأما بالنسبة لنفسك فأنت المخلوق الضعيف لا تملك لنفسك نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة، ولا نشورا. * وأما بالنسبة لمن ناداك فأنت مخلوقه: عبده وابن عبده وابن أمته كما جاء في دعاء صرف الهم والحزن: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، ومقتضى العبودية "التي هي صفة من صفاتك" الاستسلام الكلي، وهل رأيت مريدا مخلصا لشيخه تأخر عن تلبية الطلب، أو تذمر من طلباته؟ * وصيغة النداء التي نوديت بها أخي المؤمن صيغة مدح: يا أيها النبي، يا أيها الرسول، يا أيها الذين آمنوا. واستعمل في النداء حرف "يا" الذي وضع لنداء البعيد، فإذا نودي به القريب فللتوكيد المعلِم بأن الخطاب الذي يتلوه معتنىً به جداً. * فأصغ لنداء ربك، فإن نداءاته إما أن تكون خيرا تدع إليه، كما في قوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ" البقرة: 172. وإما أن تكون شرا تُحذَّر منه، كما في قوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ" النساء: 144 * وأما لم ناداك: فلأجل أن يعلمك بما فيه زكاة نفسك وطهارتها، وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة وهو الصوم الذي به ترتقي إلى درجة التقوى التي هي الغاية من كل أمر ونهي "لَعَلّكم تَتَّقُونَ" و"لَعَلّكم يَتَّقُونَ". * وأما موقفك من هذا النداء: فهذا الذي ندعوك إلى الانتباه إليه، فإن كل إناء بما فيه ينضح، فإن كان قلبك حشي إيمانا وتعظيما وتبجيلا لمن ناداك أسرعت بتلبية المطلوب، وإن كان غير ذلك تأخرت أو تقاعصت أنت أعلم بحالك. * صيد الخاطر: قيل: إن كل آية فيها "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ" فهي من القرآن المدني، وما كان فيها: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ" فهي من القرآن المكي، وهذا القول لم يسلم لقائليه. * والذي بدا لي "والله أعلم" أن التنويع في وصف المنادَى لا يدل على الفترة الزمنية للنداء، وإنما يدل على ما يشترط في الإتيان بما نودوا به، فإن كان مما يشترك فيه الكل: المؤمن والكافر؛ كان النداء "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" الحجرات: 13 فالخلق كلهم خلقوا من الذكر والأنثى، المؤمن منهم والكافر، فناسب النداء بهذه الصفة. وإن كان النداء من مستلزماته الإيمان؛ أي: أن الإيمان شرط من شروط صحته كان النداء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" البقرة183 والصوم لا يقبل من كافر. * تنبيه لا بد منه: مما يساعدك أخي القارئ على فهم خطابات ربك أن تعتقد أن ربك يراك، وأنك الوحيد الموجه إليه الخطاب، وأن كل تقصير يقع ستحاسب عليه، ولا تظن أن المطالب بتطبيق الأوامر والنواهي هو الحاكم "الرئيس"، أو القاضي، أو الإمام وأما أنت فلا دخل لك في كل ذلك، فهذا عين الخطأ. * أخي المؤمن: مقتضى عبوديتك وإيمانك بربك يدفعك دفعا قويا للاستماع والإنصات لما نوديت من أجله، وهذا ما نراه في الغد بحول الله. والله يتقبل مني ومنك الصيام والقيام. ولا تتأخر عن حضور صلاة الفجر بالمسجد.