ذكرت جريدة "الشروق اليومي" في عددها الصادر في تاريخ 20 / 8 / 2008 (ص2)، أن "دراسة حديثة أجريت حول معدلات القراءة في العالم أظهرت أن القارئ العربي يقرأ في كل عام نحو ربع صفحة فقط، في الوقت الذي تبين أن معدل قراءة المواطن الأمريكي لا يقل عن أحد عشر كتابا في العام، والمواطن البريطاني عن سبعة كتب في العام". لقد أحسست وأنا أقرأ هذا الخبر بمرارة هي أشد مرارة من الحنظل. لقد تساءلت عن سبب هذه الفضيحة، أي تدني مستوى الإقبال على القراءة؛ هل يعود إلى تزهيد الإسلام في العلم؟ أم يعود إلى ضعف القدرة الشرائية؟ أم إلى غير هذين الأمرين.. وقد انتهيت إلى أن سبب هذه الفضيحة لا يرجع لا إلى الإسلام، ولا إلى تدني الدخل الفردي. فأما الإسلام فيكفيه فخرا أن يكون أول مانزل من القرآن الكريم هو الأمر بالقراءة، وبذلك جعل العلم "واجبا"، والواجب هو مايعاقب على تركه. وقد قرأت قبل مدة قليلة أن محكمة ألمانية عاقبت شخصا وزوجه (ألمانيين) منعا ولدهما من الذهاب إلى المدرسة، فكأن هذه المحكمة الحكيمة تطبق من غير أن تدري حكما إسلاميا. ويكفي دليلا على ترغيب الإسلام في طلب العلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بَشَّرَ طالب العلم بأن الملائكة تضع له أجنحتها رضى بما يصنع، وأنه في سبيل الله حتى يرجع، وأن الحيتان تستغفر له. وقد علمنا من سيرة رسول الله عليه الصلاة والسلام أن بعض مشركي قريش الذين أسروا في معركة بدر كان فداءهم هو تعليم كل واحد منهم عشرة من أطفال المسلمين.. كما علمنا من تلك السيرة العطرة أن صاحبها عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم جعل العلم مهرا لامرأة لم يجد خطيبها ماينحله لها، فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام علّمها ماعندك من القرآن... لقد فقه المسلمون في القرون الأولى هذه المبادئ الإسلامية فأقبلوا على العلم إقبال الظمآن على الماء، وضربوا أكباد الإبل في طلب العلم، وبذلوا في سبيله سوادهم وبياضهم حتى قيل إن الإمام ابن رشد لم يقرأ يومين في حياته؛ يوم زواجه، ويوم وفاة والده. وكان شعار كثير من المسلمين هو: "مع المِحْبَرة إلى المقبرة". وجاء في تراثنا أن عالما سئل: لو أُنْبِئْتَ أنك ستموت بعد وقت قصير، فماذا أنت فاعل؟ فقال: أقرأ.. وأما ضعف القدرة الشرائية فليس حجة؛ لأن هناك بلديات تملك مكتبات بلدية، ولكن كتبها ضربت عليها العنكبوت بنسجها.. وكم رأينا أناسا يشتكون العوز، ولكنهم يشترون خاصة في رمضان كثيرا من الكماليات.. وقد أخبرني إمام مسجد في غرب مدينة الجزائر، أن شخصا جاءه ليعيره مصحفا من المسجد.. وإذا كان بعض الناس يعانون قلة الدخل؛ فإن كثيرا منهم يملكون القناطير المقنطرة من الأموال، وينفقون الملايين على زخرفة قصورهم من الخارج، ولكنك إذا دخلت هذه القصور وجدتها أشبه بالقبور، لخلوها من أي كتاب مسطور. يبدو لي أن الذي زهّد الناس في العالم العربي في العلم هو أنهم رأوا أن الجهلة يسودونهم ويستحوذون بطرق شيطانية على الثروات، فعلموا أن العلم لا يكسب صاحبه في العالم العربي لا منصبا ساميا، ولا مالا وفيرا، ولو نهق مع الناهقين، وتملّق مع المتملقين لأكل من فوق يديه ومن تحت رجليه.. وهذا مايفعله في المدة الأخيرة أحد الذين آتاهم الله آياته، ولكنه بدلا من أن يوجِّهها في خدمة الإسلام، وتعليم الناس الخيرة؛ تراه يجوب الجزائر مادحا هذا، متملِّقا ذاك، موجها رسالة إلى "السلطان" لعله يمن عليه فيدنيه، وينعم عليه.. إن الدول التي تقدمت لم تنل ذلك التقدم إلا بفضل حُكَّامها العلماء وانفاقهم على العلم، وإقبال شعوبها على القراءة.. فأفرادها يقرأون في الحافلات، والقطارات، والطائرات، والباخرات، والمنتزهات.. وقد رأيت يوم 10 / 8 / 2008، في قناة "المستقبل" شريطا عن مكتبات متنقلة في شواطئ بلجيكا لإعارة الكتب للمصطافين.. وغفر الله للشاعر معروف الرصافي الذي لخّص أزمة أمتنا في بيتين من الشعر هما: لاخير في وطن يكون السيف عند جبانه، والمال عند بخيله والرأي عند طريده، والعلم عند غريبه، والحكم عند دخيله ومن قبل قال شاعر، ولعله الإمام الشافعي: وتعرى السادة العلماء فينا وأثواب الحرير على الدّواب وخنزير ينام على حرير وذو أَدَبٍ ينام على التراب إن أخشى مايُخشى هو أن يكون مستقبل وطننا وأمتنا أسوأ من الحاضر؛ لأن مانراه خاصة عندنا لا يبشر بخير، وعندها سيردد الناس مع الشاعر قوله: لئن كان باقي عيشنا مثل ما مضى فللموت إن لم ندخل النار أَرْوَحُ.