العقل السياسي الحكيم والراشد، لن يتوقف كثيرا عند الأزمة المالية العالمية الكبيرة، ولا عند بداية ركود خطير في الاقتصاد العالمي الحقيقي، لكنه سوف يتوقف بلا ريب عند الحالة التي هو عليها »المحرك« الطاقوي، الذي قطر طوال قرنين الاقتصاد العالمي، وسمح بانطلاق ثلاث ثروات صناعية، هو اليوم مهدد بالنضوب في بحر أربعة عقود. * وعوض أن تنشغل الدول العربية النفطية بانهيار أسعار النفط، كان عليها أن تنشغل بقرب نضوب هذه الهبة، والبحث عن بدائل طاقوية، تنقلها من دول مصدرة للنفط إلى دول مصدرة للطاقة الشمسية: أمّ الطاقات، مع توفر العالم العربي على ثلاث أوراق رابحة في السباق العالمي القادم على ترويض الطاقات البديلة، فهي تتربع على 14 مليون كيلومتر مربع من الصحاري المشمسة على مدار السنة، وتجمع لها من الطفرة النفطية ما يزيد عن 7000 مليار دولار، وفوق ذلك تحتل قلب العالم بين ثلاث قارات يسكنها أربعة أخماس سكان العالم. * انتهاء الطفرة النفطية الثالثة والأخيرة، مع ما سيترتب عنه من مشاكل للدول التي يعتمد ميزانها التجاري على عوائد المحروقات، قد تدفع أخيرا بالساسة إلى التفكير جيدا وبسرعة في اتجاه البحث عن بديل للنفط، كمصدر لميزانها التجاري ومصدر متجدد للطاقة. ذلك أنه وحتى مع عودة الاقتصاد العالمي، بعد سنة أو سنتين للنمو، فإن نشأ توجه عام داخل الاقتصاديات الكبرى للحد من الاعتماد على الطاقات الأحفورية بسبب الوعي المتنامي بتداعياتها وآثارها في كارثة الاحتباس الحراري، ويجدر بالدول النفطية ومنها الدول العربية الدخول مبكرا في هذا السباق المفتوح. * وإلى حين يتبلور مثل هذا التوجه في العالم العربي، فإننا في الجزائر كنا مطالبين حتى قبل تفجر هذه الأزمة بالبحث عن محرك جديد وفعال لاقتصادنا الوطني، جنبا إلى جنب مع بحثنا عن سبل بناء دولة قوية تمتلك مشروعا قوميا واضح المعالم، ينظر إلى مسألة الأمن القومي أولا من زاوية بناء اقتصاد قوي، يكون مفتاحا لحل كثير من الأزمات الاجتماعية والفتن السياسية والثقافية، وقادرا على مواجهة التحديات الكبرى الجديدة التي تهدد الكيانات الصغيرة والمتوسطة بالتفكك والزوال. * * الحاجة إلى محرك جديد للاقتصاد * البحث عن محرك دائم وقوي وآمن للاقتصاد الوطني على خلفيه دخول الاقتصاد العالمي مرحلة ركود، وانهيار أسعار النفط، وشعور العالم بالحاجة إلى طاقة بديلة للنفط يمليها الاحتباس الحراري، لا يحتاج إلى تفكير كبير للاختيار بين البدائل المتاحة. * فكما أن السياسة هي فنّ الممكن، فإن السياسة الاقتصادية أولى أن تكون فن الممكن، بمراجعة ما بين أيدينا من خيارات وبدائل، ثم الأخذ بما هو ممكن ومتاح، وضمن دائرة قدراتنا المعرفية والتقنية والمالية. * فما هي الخيارات المتاحة لبلد كالجزائر ضمن فروع الاقتصاد العالمي كما هو؟ فكيف هي حظوظنا في المجالات الأربعة التي تشكل إجمالي النشاط الاقتصادي في معظم الاقتصاديات؟ في الصناعات العالمية العالية التقنية، وفي الصناعات الاستهلاكية، وفي الفلاحة والصناعة الغذائية، وأخيرا في قطاع الخدمات. * في هذه القطاعات الكبرى، لا حظّ لنا، بالنظر إلى مستوانا العلمي والتقني المتدني، وغياب سياسة جادة للبحث العلمي، يضعنا على بعد سنوات ضوئية عن نقطة اللحاق حتى بالمستوى الذي بلغته دول ناهضة مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية. * في الصناعات الواسعة الاستهلاك، لن يكون بوسعنا الدخول في منافسة مع دول مثل الصين والهند وتايوان، إذا كان الغرب قد رفع الراية البيضاء، وسلم بالهزيمة. * في الصناعات الغذائية، والفلاحة ذات الإنتاجية العالية، لن يكون لنا حظ، بحكم ضعف الإنتاج الفلاحي، وإدارته بطرق تقليدية، وبحكم عوامل أخرى أهمها: ضعف الإطار الفني وقلة الاستثمارات، ناهيك عن الشح المتزايد في مياه الأمطار، وغياب بدائل جادة. * في قطاع الخدمات، سواء البنوك، أو السياحة، ليست لنا مؤهلات تذكر أو تراكم تاريخي نستند إليه. فقطاعنا المصرفي والمالي مازال يعمل بذهنية وأدوات من القرن التاسع عشر، وقطاع السياحة يحتاج إلى عشرات المليارات من الاستثمارات، ويحتاج فوق ذلك إلى ذهنية غير ذهنية الجزائري وثقافته المعادية للسلوك التي يحتاجها هذا القطاع. فماذا بقي لنا؟ * * اختيار موقع تنافسي في التقسيم العالمي للعمل * الاستمرار في التعويل على الريع النفطي، الذي تلتهمه الأزمات الدولية المالية، والاضطراب الحاصل في العملات، الاستمرار في سياسة صناعية فاقدة دليل وخارطة طريق واضحة المعالم ولا هدف ولا غاية. وفي قطاع الفلاحة، نعيش على أقل من عُشْر مساحة البلاد، قد التهمها العمران وقضى على خيرة الأحواض فيها، ويستنزف ما بقي من التربة بالاستعمال العشوائي للأسمدة والمزروعات، مع شح في مياه الأمطار، وانحصار في فرص بناء مجمعات كبرى لتخزين المياه الجارية، واستنزاف خطير للمياه الجوفية. * مع انسداد هذه الآفاق وامتناع مشاركتنا في التجارة العالمية خارج المحروقات، ثمة ضغوط اجتماعية هائلة، بتحديات كبيرة في مجال الشغل، والصحة، والتعليم، تحتاج جميعها إلى معالجة ثورية بأساليب جديدة. * الاقتصاد العالمي المعولم، الذي سوف تزداد فيه وتيرة العولمة حتى مع الأزمة الراهنة، سوف يتجه أكثر فأكثر إلى مستوى أكبر من التخصص ومن تقسيم العمل، وتفرد مجموعات دولية أكبر بقطاعات من الاقتصاد. فمهما فعلت بقية التجمعات، فإنها لن تقوى على منافسة الأقطاب الآسيوية في الصناعات الاستهلاكية المنتجة بأسعار رخيصة، في الملبس، والتجهيزات المنزلية، ووسائل النقل، وسوف يبقى الفضاء الأوربي والولاياتالمتحدة واليابان فضاء للصناعات العالية التقنية، حتى وإن كان يواجه منافسة صينية وهندية في الصناعات المعلوماتية والحاسوب والهاتف النقال. * كما سيظل قطاع الخدمات حكرا على الفضاء الغربي، في المجال المالي والمصرفي، والصناعة السياحية التي قد ينالنا منها بعض الريع من باب المقاولة فيها من الباطن بأوطاننا وأعراضنا. * * شمس العرب قد تسطع من جديد على الغرب * الصورة تبدو أوضح، باستشراف حالنا ضمن مجموعة أكبر، هي المجموعة العربية التي تشترك معنا في أكثر من واقع ومصير. فالدول العربية تتربع على مساحة 14 مليون كلم، أكثر من 90 بالمائة منها، مساحات صحراوية. * هذا اللوح الأسود لعالم عربي أربعة أخماس أراضيه مرشحة لتكون أراض شبيهة بالقطب الشمالي، يخفي منجما للثروة، وللحياة لا يقدر بثمن، بالنظر إلى التحدي الطاقوي المطروح على العالم. * فالعالم الغربي الذي يستهلك اليوم ثلثي طاقة العالم بتعداد سكاني يقل عن خمس سكان العالم، كان يستهلك سنة 1993 كميات هائلة من الطاقة، في طليعته الولاياتالمتحدة بمعدل 1407 مليون طن نظير النفط (1tep يساوي45OO KWT) أي ما يعادل عشر مرات استهلاك بلد مثل فرنسا أو 22 مرة استهلاك اسبانيا. بالقياسات الكهربائية تنتج الولاياتالمتحدة 3211 تيتراوات ساعة في السنة تستهلك منها 2873. ولا نرى في الأفق اتجاها نحو تخفيض الاستهلاك، كما لا نرى بديلا للنفط الذي يقدر مخزونه المعلوم حوالي 173 مليار طن في نهاية 1995، أي ما يكفي لأربعة عقود لا أكثر، فبأية طاقة سوف يتحرك هذا الاقتصاد النهم للطاقة؟ * في العقود الثلاثة الماضية أضيف للمحرك الصناعي للاقتصاد العالمي، محركا آخر جاءت به الثورة المعلوماتية والصناعات المترتبة عنها، منح نفسا للاقتصاد العالمي إلى حين انفجار الأزمة المالية، وكان سيتواصل دون تعطيل، لولا بروز معالم أزمة طاقوية كبرى لها وجهان: * الوجه الأول: ناتج عن كون معظم مصادر الطاقة المستعملة آيلة إلى النضوب، سواء تعلق الأمر بالطاقة الأحفورية، أو النووية، أو حتى الطاقة الكهرومائية. * والوجه الثاني: متصل بظاهرة الاحتباس الحراري التي سوف تحرم الاستمرار في الاستعمال المكثف للطاقة الأحفورية، حتى لو لم تكن مهددة بالنضوب، والأخطار الأمنية المتصلة بالطاقة النووية مع وجود محاذير دولية تعطل انتشارها وتعميمها. * كبار الاقتصاديين يقولون إن الثورة القادمة التي سوف تمنح الاقتصاد العالمي محركا جديدا، هي الثورة في صناعة الطاقات البديلة، في طليعتها الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، مع وجود مقاربات جديدة في مجال الطاقة الشمسية، وابتكار تكنولوجيات جديدة لاستقطاب الطاقة الشمسية، قادرة على إنتاج طاقة بديلة، مرشحة في بحر عقود من الزمن لتعويض الطاقة الأحفورية، بكلف للكيلوات سوف تنزل تحت كلفة الكيلوات النووي ثم الأحفوري. * مقاربات تكنولوجية جديدة تجري منذ عقدين، سوف نتعرض لها في مقال مستقل الأسبوع القادم، ترشح الطاقة الشمسية لتكون البديل الأنجع للطاقة النفطية والنووية، سوف تكون صناعتها هي المحرك للاقتصاد العالمي. يكفينا اليوم أن نتوقف عند أهم تداعياتها على الاقتصاد، وبالأخص على اقتصاديات العالم العربي: * * ثورة في متناول العرب لحل أزماتهم * 1 : كلف الاستثمار فيها هي في متناول أيدينا. وإذا نظرت إليها من زاوية ما تراكم من عوائد الطفرة النفطية في العالم العربي، فإنه سيكون في وسع العالم العربي أن يؤسس صناعة رائدة، تنتج أضعافا مضاعفة لعائدات النفط، وتجعل من العالم العربي المنجم الطاقوي الأول لتزويد القارات الثلاث (إفريقيا وأوربا وآسيا) بما تحتاج إليه من الطاقة الكهربائية. * 2 : أن التكنولوجيا المستعملة في الطاقة الشمسية ليست معقدة، وهي في متناولنا، حيث أن معظم مكوناتها متوفرة منذ أكثر من قرن، وهي مؤهلة لتوظيف صناعاتها في العالم العربي (واعني الصناعات الكهربائية، مثل التوربينات، والمحولات، وعتاد نقل الطاقة الكهربائية)، * 3 : أننا في العالم العربي نواجه على المدى المتوسط تحديات متعددة في مجال الطاقة، بعد نفاد النفط، مع المحاذير الدولية في مجال امتلاك الطاقة النووية، كما نراه في الأزمة النووية مع إيران. * 4 : إننا نواجه تحديا أخطر، يتمثل في شح مياه الشرب، والمياه الصناعية والفلاحية، لا حلول لها خارج خيار تحلية المياه المستهلكة لكميات كبيرة من الطاقة. * 5 : أننا نواجه تحديات أعظم على المستوى الغذائي مرهونة بتوفير طاقة دائمة، وقدر كاف من المياه. * 6 : إننا نواجه تحديات اجتماعية كبيرة تشترط توفير عشرات الملايين من مناصب الشغل، ضمن منافسة دولية لا نقوى عليها في القطاعات الاقتصادية الكبرى المشار إليها أعلاه. وكما نرى فإن معظم تحدياتنا الكبرى مترابطة، ومرهونة بإيجاد بديل للنفط في منظوماتنا الاقتصادية، والبحث عن محرك جديد لاقتصادياتنا، نمتلك بشأنه مقومات المنافسة العالمية. * الأزمة التي قد نولد منها الهمة * وسواء ذهبنا لهذا الخيار بمفردنا، أو ضمن عمل عربي مشترك لا نحتاج فيه لكثير من الحجج لإقناع أشقائنا العرب، فإن ما سبق قد أظهر غياب بدائل أخرى، وقد تكون هذه الأزمة في الاقتصاد العالمي فرصة لا تعوض لإنضاج هذه المقاربة، والذهاب في المرحلة الأولى إلى توطين نماذج منها في بعض الدول العربية، لقياس جدواها الاقتصادية، وحتى إذا كانت حسابات الجدوى الحالية تجعل من كلفة الكيلوات المنتج عبر هذه المقاربة يعادل ثلاث أو أربع مرات كلفة الكيلوات النووي، فينبغي المخاطرة به، علما أن أفق الحل النووي قصير، وكلفته المالية عالية، وليس في أيدينا تكنولوجيته. وعلينا أن ندرس الكلفة ضمن نظرة شمولية، تأخذ بعين الاعتبار ما سنكسبه على المستوى »الماكروإيكونوميكََ«، ومستوى السيادة والأمن القومي.