هل تخوّل شرعية ما لأصحابها -أو من يعتقدون أنهم كذلك- أن يتطاولوا على أمة بأجيالها؟ وهل يحق لمنقوص الشعور بالانتماء أن يشكك فيما يَجمَع الأمة وُيوصِل أجيالها ببعضها البعض؟ وهل من الديمقراطية وحرية الرأي أن ينال بعضنا من الذات التاريخية المشتركة المتمثلة في عدد الشهداء الذين خلصوا الجزائر من أبشع استدمار ما زال عالقا في العقول والألسن ورحلوا إلى غير رجعة؟ * هذه بعض الأسئلة الحرجة التي يطرحها الجزائري البسيط وهو يستمع -في سوق النخاسة السياسية- إلى من كان يظن أنهم يدافعون عنه في الحاضر، ويقربون له المستقبل الهارب منه بفعل الممارسات السياسية أو السياسوية المقيتة، التي يمارسها بعض الحكم وكل المعارضة، فإذا بهم يضربونه في ماضيه بالتشكيك في عدد شهدائه الذين وحْدهم -دون سواهم- ما يفاخر به الجزائري في كل تاريخه المعاصر، وقد كان ممكنا أن يربح الخارجون عن توجه المجتمع معركتهم ضد النظام القائم في بعض مراحله، بتعداد مثالبه سواء تلك التي أفرزها -بموضوعية- التحول الحاصل في مؤسسات الدولة المنبعثة في أقل من نصف قرن، من عمران متوحش زحف على جمال المدن وقضى على عذرية الريف، إلى التقليل من قيمة العمل المتزايد، طالبوه بعدم تثمين الإبداع وتشجيع المبدعين في شتى المجالات، مما حوّل مسار المجتمع من مجتمع للمعلومات إلى مجتمع للريع والاستهلاك، أو تعداد تلك التي ظهرت نتيجة الفساد المستشري في عديد القطاعات، والتي كادت أن ُتطيح بالدولة في أكثر من منعرج، ولكن هؤلاء الذين يبدو أن الديمقراطية جنحت بهم إلى مسارات خطيرة لا يمكن تقبلها من الأغلبية الغالبة الفاعلة من الشعب، ولا يمكن فهم ما فعلوا إلا من حيث هو تهجم واضح وصريح وصارخ على الذاكرة المشتركة للجزائريين جميعهم، تماما كما فعل أعداء آبائهم وأعداء الشعب الجزائري، من الفرنسيين الذين أنكروا الأمة الجزائرية مع بداية الاحتلال، ولما استتب لهم الأمر قالوا إنها في طور التكوين ولا يمثل الأهالي -أي الجزائريين- إلا النسبة القليلة منها، ثم شككوا في ثورتها ووصفوا مجاهديها بأحط الأوصاف كان أهذبها "الخارجون عن القانون"، وعندما استرد الخارجون فعلا عن قانون الاحتلال أرضهم بدمائهم الغزيرة وتضحياتهم الجسيمة، قللوا من عدد شهدائهم وقلصوه إلى أقل من خمس الحقيقة التاريخية، وهو ما ذهب إليه ديمقراطيو الزمن البئيس، وكأن تفتيت الماضي المشترك وإسقاط المقدس الجماعي هو الطريق الأسلم لبلوغ المستقبل. * * لكل أمة -مهما انزلقت بها ديمقراطيتها- حدود يقف أمامها الجميع، ولا يمكن أن يتخطاها أحد مهما كانت مكانته الاجتماعية أو السياسية، ويسقط دونها السفهاء الذين يتجرؤون على المساس بقيم المجموعة البشرية التي ينتمون إليها، سواء كانت دينية أو أخلاقية أو تاريخية أو جغرافية، ولم نر قوما سمحوا لمرضاهم أو مجانينهم بإحداث أي نوع من الثقوب في جدار تماسكهم إلا ودخل منها الاستلاب، فالاحتلال، فالعبودية، فالتخلف الذي يحمل كل أنواع الفساد، وكذلك يريد البعض من المعاقين ثقافيا أن يصيبوا كيان شعبهم ببعض الفيروسات الخطيرة القاتلة من خلال التشكيك في عدد الشهداء الذين تعارف الجزائريون والعرب وكل الأحرار في العالم على أنهم مليون ونصفه من المطهرة أرواحهم، فهل لم يجد هؤلاء من إشهار لأنفسهم غير طريق الخزي المبين هذا؟. * * ليس عيبا أن يتحدث بعض المتحدثين عن الخلافات القائمة بين أبناء البلد الواحد، نتيجة التعدد السياسي واختلاف الرؤى كما أنه ليس من العيب حتى أن يتقوَّل البعض على البعض الآخر، إذا كانت الغاية هي ترميم الحاضر من أجل الوصول إلى مستقبل مشترك كما أراده الشهداء ولا يئن تحت وطأة العُقد والأمراض، ولكن العيب - كل العيب- أن يمس شخص ما -مهما علا- الذاكرة الجماعية للجزائريين، فالشهداء هم الإرث المقدس لكل من يأتي بعدهم، لا يمكن المساس بحرمتهم سواء بالتشكيك في عددهم أو بالتخلي عن وصيتهم، ولا يمكن تبرير الفعلة الشنيعة المقترفة بما يجري نتيجة لانحدار القيم الاجتماعية أو لسقوط الأخلاق السياسية أو لضعف يكاد يكون مزمنا للسلطة. * * إن إدارة الاحتلال الفرنسي السابقة قد حرّكت أدواتها وآلياتها منذ أكثر من ربع قرن لمحاصرة الشعب الجزائري بإعادة تطويق ثورته التحريرية التي أذَّنت في المستعبَدين كي يتحرروا، وأوضح مظاهر التطويق تجلى في شبه الإجماع بين المؤرخين الفرنسيين وحكومتهم التي أسست لقانون العار الذي يمجد الاستعمار، حيث تم تقليص عدد شهداء ثورة الجزائر إلى أقل من ثلاثمائة وخمسين ألفا من أصل مليون ونصف المليون شهيد، ممن أذابتهم قنابل النابالم الحارقة أو راحوا ضحية التجارب النووية الفتاكة أو ضاعوا في حقول الألغام المحرمة أو ُصعقوا بالضربات الكهربائية المميتة على مدى سبع سنوات ونصف السنة وقد أعلنهم الشعب الجزائري قربانا لاسترجاع دولته. * * انخرط في هذا التوجه -للأسف الشديد- مَن يُفترَض أنهم أحرص الناس في الدفاع عن حياض الشهيد، وأحق بالشهداء من غيرهم، وكأن انتماءهم إلى حركة سياسية شاذة الأهداف والمرامي يرفع عنهم القلم فيقولوا ما يشاؤون من أباطيل، إلا أنهم بجعلهم شهداء الجزائر سلعة في سوق التبضُّع السياسي الرديء، يكونون قد تجاوزوا المحظور والمقدس وشقوا عصا الطاعة على أمة بأجيالها وأعلنوا ولاءهم لغيرها، بل لعدوها. * * إن هؤلاء المرضى مثلهم مثل أولئك السراق والمفسدين ودعاة الموت الذين يعاني منهم الجزائريون كلهم، بل قد يكونون أشد عليهم إيلاما، لأنهم يمسون -بدناءتهم وسفههم- الذاكرة المشتركة وما فيها من قداسة يحتلها الشهداء الذين لو بُعثوا وعادوا لبدؤوا بهم حملة تطهير المجتمع، فهم من قبل ومن بعد عملوا ويعملون على أن يكون النموذج الفرنسي المتخلف في إدارة الدولة هو النموذج الواجب اتباعه، وفرضوا وجهة النظر الفرنسية البئيسة على ما عداها في تسيير الشأن العام الجزائري، بل جعلوا الإدارة الجزائرية بسلوكها ومعاملاتها وعلاقاتها بالمواطن نسخة مشوَّهة من الإدارة الفرنسية، فالاقتصاد الجزائري مرتبط عضويا باقتصاد فرنسا إلى درجة أن من يُفلس في الضفة الشمالية تعاد له الحياة من الضفة المقابلة، واللغة الفرنسية التي كانت لغة قلة مقرَّبة من إدارة الاحتلال فقط، عُمّم استعمالها وتمددت ليس على حساب اللغات الأجنبية الحية المطلوبة عالميا فحسب، بل على حساب اللغة الوطنية والرسمية التي لم تشفع لها مكانتها العالية في الدستور ولا وضعها القانوني المريح، حتى أصبحت تشبه اللغة الأجنبية الثانوية المنبوذة في دارها والمقهورة من أهلها. * * يبدو أن أصحاب اللغو والباطل في المسألة التاريخية تناسوا أن الجزائريين التحقوا بالثورة المسلحة -التي أطلق شرارتها المباركة فتية قليلون آمنوا بالله والوطن- على ثلاثة أشكال: * * 1- شكل انصهر فيه المعذبون على أرضهم في الثورة بدون تحفظ وقدموا النفس والنفيس، ومنهم بطل الجزائر المزمجر من جرجرة عميروش والقادة الآخرون الذين سقط أغلبهم في ساحة الشرف، وقليل منهم من بقي على قيد الحياة بعد استعادة الاستقلال، يضاف إليهم أبناء الشعب الذين أطعموا وآووا وحموا المجاهدين المقاتلين. * * 2- شكل التحق بالثورة بعد اشتداد عودها خوفا من بطشها أو طمعا في "غنائمها"، وكثير من هذا الشكل وزع أفراد أسرته على الخندقين المتحاربين، خندق جيش فرنساالمحتلة تحت لواء ما يعرف ب "الڤومية" و"الحركى" وخندق الجبهة تحت قيادة جيش التحرير الوطني. * * 3- شكل حارب الثورة وظل يناصبها العداء إلى آخر يوم من أيام المواجهة الدامية بين الجزائروفرنسا، بزعامة الخونة الذين حملوا السلاح ضد شعبهم، وفر بعضهم مع فرنسا المرحَّلة، غير أن جموعا منهم اندست وسط الحشود السّكْرَى بالنصر، وتحالفوا مع أبناء الشكل الثاني الذي تؤكد كل القرائن أنه هو الذي اغتصب السلطة الفعلية، وأدار الدولة الوطنية إلى وجهة السقوط التي خطط لها الجنرال شارل ديغول، ومنهم تضخّمت أعداد بطاقات المجاهدين، وظهر في القاموس السياسي اسم "المجاهدون المزيفون" كحقيقة شفوية جرّت البعض إلى المحاكم، كان حريا بالمؤرخين أن يضعوا حدا لكل لغط حيالها، ويخلصوا التاريخ من الاحتكار الرسمي الذي أضر بجهاد الجزائريين، ويمنعوا بذلك التبضُّع بالمادة التاريخية النفيسة في ساحات اللغو السياسي للحابسة عقولهم في جيوبهم، ولأنه لم يحدث ذلك أو ما يشبهه، فإن تحالفا جديدا -للأسف- مبنيا على مصالح من نوع آخر ألحق كبير الألم بالجزائريين وما يزال، يبدو أنه في طور التشكّل إن لم يكن اكتمل، بين أبناء ذلك التحالف وبين المعاقين والمرضى من بعض أبناء الشهداء، من أمثال من شتموا الشهداء في شهرهم، بعدما استغلوا هشاشة الواقع السياسي الراهن ليصبُّوا جام غضبهم عليه، من باب النيل من التاريخ المشترك للجزائريين والتعرض لمن لا يستطيع أن يرد، ولكن قديما قيل في المثل الجزائري الدارج: النار تولد الرماد !!!!! * * [email protected]