تحتاج الجزائر إلى مصالحة واسعة، من خلال اتخاذ خطوات عملية تعزز المصالحة ليس فقط بين الحاكم والمحكوم بل بين الشعب ودولته، فالمصالحة الوطنية يجب أن تكون مجموعة مصالحات تضع حدا ليس فقط لتداعيات الأزمة الدامية التي غرقت فيها بلادنا بل تتجاوز ذلك إلى ردم أحقاد الماضي ورواسبه وتأمين المجتمع من كل الأخطار التي تتهدده• ولعل الخطوة الأولى في هذا الاتجاه تقتضي تسامح الجزائريين فيما بينهم، وهذا بهدف الوصول إلى مصالحة حقيقية، يراد لها أن تنتشل المجتمع من مأساته، وتداوي جراحه العميقة من جذورها وتنزع الضغائن والأحقاد والكراهية من النفوس والعقول، بعد سنوات طويلة من التخريب الفكري والنفسي والاجتماعي• إن المصالحة الوطنية تعني أن نتوجه نحو المستقبل بعيدا عن أخطاء الماضي وعن صراعات الأشخاص، وأتوقف هنا عند مشهد يجسد صورة الجزائرالجديدة التي نريد، الجزائر التي تقوم على التراكم ولا تنطلق في كل مرة من الصفر. أبى الرئيس بوتفليقة في حفل أداء اليمين الدستورية إلا أن يكون مرفوقا بالرؤساء أحمد بن بلة، الشاذلي بن جديد وعلي كافي، كانت الصورة تجسد حلما طالما راود الجزائريين الذين يحبون بلادهم ويرون تاريخها حقبا متكاملة لا متصارعة، وليس أولئك الذين كانوا يجدون أنفسهم في تلك الصراعات والمعارك العبثية التي تشتت الصفوف وتهدر طاقات الأمة وتغرقها في المعارك الهامشية وتجعل الكل في مواجهة الكل• يجب الاعتراف بأن التراكم الذي لا يقوم تقدم بدونه، بات آلية منسية في حياتنا السياسية، فالتاريخ يبدأ مع بداية النظام أو الرئيس الجديد، فتنتفي أية حاجة إلى معرفة ما سبق أو الاستفادة من تجارب مرت بها البلاد أو الإقرار بإيجابيات حصلت في الماضي لكي نبني عليها ونطورها، وكان من الطبيعي أن تتجلى عدوانية كل جهة أرادت أن تبني مجدها على حساب الجزائر. لقد عرفت بلادنا منذ استعادة سيادتها أكثر من حرب معلنة وخفية بين الرؤساء الذين تعاقبوا على الحكم، كل رئيس جديد يلغي ما قبله، بل كان السعي حثيثا لدى كل رئيس لإعلان الحرب على سابقيه، تشويها وتقزيما، ولسنا هنا بحاجة إلى أدلة لإبراز تلك الحالات المؤسفة والتي حولت تاريخ الجزائر المستقلة إلى معارك مفتوحة يخوضها الوافد على الرئيس الراحل. الرئيس بوتفليقة عبر خلال عهدته الرئاسية الأولى عن أمنيته في أن يرى الرؤساء بن بلة، الشاذلي، كافي وزروال مجتمعين على طاولة واحدة، وها هو يجسد هذا الحلم بمناسبة اعتلائه سدة الرئاسة، بعد أن كان قد شرع فيه قبل سنوات في احتفالات الجزائر بذكرى غالية هي عيد الثورة• كان المشهد ذا رمزية دالة على أن الجزائر تؤسس لتقاليد حضارية، فأحمد بن بلة كان رئيسا للجزائريين ومهما كانت إيجابيات أو سلبيات تلك المرحلة، لا يمكن لأحد أن ينزع منه تلك الصفة، وكذلك هو الأمر بالنسبة للرؤساء الذين تعاقبوا على الحكم، ومهما بلغت قساوة الأحكام على هذا الرئيس أو ذاك، فإنها لا تلغي أبدا حقيقة جوهرية وهي أن أولئك الرؤساء هم جزء من تاريخ الجزائر، بل ويرمزون لها كيانا ودولة• ولا اختلاف على أن الدولة التي تهين رئيسا كان على رأسها ليست جديرة بالحياة، ولذلك فحضور الرؤساء السابقين حفل أداء اليمين الدستورية لا يعيد الاعتبار لهؤلاء الرؤساء بل يعيد الاعتبار لقيم الجمهورية وللدولة التي أعادت تصحيح خطيئة سادت لسنوات طويلة، والأمر المؤكد أن تلك الخطيئة، وهي مقصودة، لا تشرف الجزائر ولا تليق بها• وبإمكاننا أن نتوقف خلال العشريتين الأخيرتين، عند أكثر من قصة مؤسفة أو "قضية عبثية" تروي كيف تم تشريد إطارات ومسؤولين كبار، وكيف تم "تجويع" وإذلال مسؤولين سابقين، وكيف تم "تسويد" صفحات رؤساء، وما أكثرها الأسماء التي حكمنا عليها بالصمت والنسيان، رغم أنها كانت ملء السمع والبصر، هل هي مجرد عادة سيئة أم أنها تجسيد لإرادة قبيحة بهدف الانفراد بالصورة والأضواء. قصة بومدين بعد وفاته تؤكد أن الرجل أريد له أن يموت مرتين، وقصة الشاذلي بعد تنحيته تؤكد أن الرجل أريد له أن يموت وهو حي، وقصة أحمد بن بلة وهو في سجنه تؤكد أن الرجل أريد له أن تكون القضبان هي حياته! قصة بوتفليقة بعد خروجه من الوزارة تؤكد أن الرجل أريد له أن يفقد "عزة النفس"، وكل ذلك كان يتم مع سبق الإصرار والترصد! وليس خافيا على أحد أن تلك الصراعات السلطوية أو "العصبوية " التي واكبت مسيرة الجزائر المستقلة قد كانت على حساب مصالح المجتمع والدولة ومستقبل الأجيال الراهنة والقادمة، ولذلك يجب تثمين مبادرة الرئيس بوتفليقة وكذا استجابة الرؤساء السابقين، حتى وإن ظلت الصورة منقوصة بغياب الرئيس اليمين زروال. قد يقول البعض: ولكن أين هي المصالحة في هذا كله ؟ •• ويكون الجواب: إن هذه خطوة جزئية يجب أن تتكامل مع جزيئات أخرى لبلوغ هدف المصالحة الوطنية التي لا يمكن أن تتجذر إلا بشعور الجزائريين، الموالي منهم والمعارض، بأنهم سواسية أمام القانون وأن كرامتهم مصونة وأن عدالتهم في خدمتهم وأن الدولة قوية بهم وليس عليهم. وليس المطلوب كثيرا ولا مستحيلا، إنه استبدال الخوف بالأمن والتفكك بوفاق يحترم التعددية ويقبل الاحتكام إلى الشعب ويقدس مشتركات الأمة والثوابت التي لازمت نضالها الطويل. فالمصالحة فضاء جامع لأبناء الجزائر، ولا يجوز بأي شكل من الأشكال إسقاط جماعة أو أشخاص بسبب خلاف سياسي أو تنازع سلطوي، ولذلك فإن مشهدا يجمع رؤساء الجزائر الأحياء هي خطوة في الاتجاه الصحيح نتجاوز بها حدة الفرقة والتباعد، وهي رسالة ذات دلالة قوية، تجمع بين الحكمة والسياسة ويجب فهمها وإدراك مغزاها واستيعاب ما ترمي إليه من غايات سياسية ثقافية وحضارية• إن المطلوب ليس تغطية الحقائق بالاتهامات والاتهامات المضادة أو بحملات التشويه والتسويد والمطاردة، ولا اختلاف على أن الأجيال تعرف تشويشا في الرؤية من كثرة التضارب وغياب الموضوعية في تناول الأحداث وتقييم الأشخاص، وأي شيء يبقى إن كان مصير المخلصين من أبناء الجزائر، اتفقنا معهم أم اختلفنا، التجريح والإهانة، ولنا هنا أيضا أكثر من قصة مؤسفة تروي كيف أن الأقزام أرادوا أن يتطاولوا على رجال كبار ولكن -وتلك هي سنة الحياة- يبقى الكبار كبارا ويظل الأقزام أقزاما. تلك هي دلالات صورة، يكون الرئيس عند رسمها قد عمل بالمثل القائل: " من يخالفك الرأي ليس بالضرورة عدوك.."، إنها الصورة التي تؤكد بكل دلالاتها الرمزية، حجم الحاجة إلى مصالحة قوية تحمي البلاد من تداعيات الماضي وسلبياته وتؤهلها لمواجهة تحديات الحاضر وتبني لها موقعا ومكانة في رحاب المستقبل. " الثأر ليس في الانتقام.. والمنتصر الكبير هو القادر على العفو.."