قبل أكثر من ربع قرن كنت أداوم على زيارة أسبوعية للسيد الرئيس المرحوم بن يوسف بن خده، أتعلم منه واستمع إلى حكمته وأتأمل رؤيته في السياسة والقيم والأخلاق، وكان للقاءاتي معه أثرٌ كبيرٌ في فهم معادلة المفاوضات وألاعيب الاستعمار الفرنسي.. وفي يومٍ، تطرق حوارنا إلى جمعية العلماء المسلمين، فأشار رحمة الله عليه إلى كون الجمعية تدعو إلى الاندماج، ومع عظيم حبي للمرحوم بن خده، إلا أني خالفته وقلت له: كيف يكون ذلك وفي قصيدة ابن باديس التي كانت بيانه التاريخي في بداية الثلاثينات يقول بوضوح: "ومن رام إدماجا له رام المحال من الطلب.."؟ واستعرضتُ أمامه مواقف الإمام ابن باديس المتصاعدة، وكيف انها انتهت إلى صناعة واقع مبني على ضمانات البقاء نقيض للوجود الاستعماري ومنفصل انفصالا كاملا عنه... أتذكر هذه الجلسة وأنا أقرأ مقالا للزميل الكاتب المحترم أحميدة العياشي بعنوان "ما لم تقله الشروق عن جمعية العلماء".. وإني أتساءل معه: "ألم يحن الوقت بعد نصف قرن على الاستقلال للحديث عن تاريخ الجزائر وتاريخ الجمعية خصوصا"؟.. ولكني آخذ بيده إلى مناقشة موضوعية بعيدا عن شخْصنة الأفكار والمواقف والمسار.. فتبدو لي كثير من النقاط التي عالجها الأستاذ أحميدة ليست ذات أهمية، وفقط تحولت في مقاله إلى نوع من الإثارة من خلال الاتهام والقراءة الجزئية لذيول الموقف او الانسياق للحديث عن الشخص في بيئته وطبقته.. وهذا أسلوب لا يفيد للوصول إلى الحقيقة الموضوعية، لأنه سيجرنا إلى غير ما نريده من دراسة التجربة الباديسية بمنهجية علمية تسهم في تشكيل الوعي بالتاريخ الجزائري وسنن مسيرته.. ففضلا عن عدم الدقة في سرد الأستاذ أحميدة فهناك عدم مراعاة للظرف التاريخي الذي تحركت فيه جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لإنجاز أهدافها.. لقد نظر الأستاذ أحميدة إلى بن باديس باعتباره شاعرا او خطيبا يقول كلمته كاملة كشهادة على الواقع ويكتفي بها، ولم يلتفت الأستاذ احميدة إلى ان ابن باديس صاحب مشروع ثوري تحرّري كان عليه توفير شروط الانتصار وأسبابه ويتحرك ضمن مراحل لكل منها أهداف تنتهي بتحقيق الهدف الكبير، مما قد يعني أن عليه إجراء مهادنات هنا أو هناك لتجنب إحباط المشروع الثوري التحرري وهو القادر على التخلص من هذه المهادنات الواقعية كلما وفر عناصر إضافية لتصليب الموقف والواقع الثوري. لقد كان ابن باديس يغرس ألغامه في الواقع الاستعماري واحدا واحدا مبتدئا باللغة والتاريخ والثقافة.. هذه نقطة منهجية أردتُ الإشارة إليها قبل الدخول في مناقشة النقاط التي طرحها الأستاذ أحميدة العياشي. "المؤتمر الإسلامي" عام 1936، كان حلقة في مسيرة الجمعية منسجمة مع ما سبقها وما لحقها، جاءت في زمانها تماما، ما كان لها ان تتقدم على جهوده في التوعية الحضارية، ولا ينبغي ان تتأخر عن هذه المرحلة لئلا ينعزل عن المجموع ويترك فرصة لإثارة الصراعات الداخلية.. وتحرك لإنجاحها الإمامُ ابن باديس ولم يهمه أبدا من يكون الرئيس، وكان ابن باديس يدرك تماما أن الوفد الذي سينبثق عن المؤتمر لمفاوضة الفرنسيين سيعود بلا أي انجاز عملي، إنما كان القصد يتركز على ان يتوحد الجزائريون في مؤتمر عام يجمع إليه المكونات السياسية الجزائرية بما فيها الحزب الشيوعي والذي كان حزبا اندماجيا بالكامل ويتحرك في إطار من نظرية الصراع الأيديولوجي مع الإقطاع والبرجوازية غير آبهٍ بالمسألة الوطنية.. ويعتبر انجاز "المؤتمر الإسلامي" في حد ذاته محطة ضرورية للجزائريين، مع انه بلا شك دون طموح الإمام الذي كتب عن مهمة الوفد المنبثق عنه قبل ذهابه إلى باريس مؤكداً أنها لن تحقق شيئاً.. وكون ابن باديس دعا الاندماجيين إلى المؤتمر من شيوعيين وسياسيين مشهورين وسواهم، فإن هذا يحسب له لا عليه؛ إنه كزعيم وقائد ما كان له ان يتخذ خطوات سياسية كبيرة دون ان يحاول كل جهده ان يشدّ المشتتين إلى موقف إجماع يفضح أمامهم نوايا فرنسا ويُسقط ادعاءاتها ويظهر حقيقة منطقها وسلوكها العنصري فيوحد بذلك مقاصد الجزائريين ولا يُبقي عذرا لمعتذر.. وهنا يخفق الأستاذ احميدة في فهم موقف الإمام من عباس فرحات رغم انه اقر بأن هناك اختلافاً بين الرجلين حول موضوع التجنيس. ومن المهم هنا ان نذكِّر بموقف الإمام من التجنيس؛ إذ يعتبره ردة لا توبة منها، وهذا ردّ مفحِم على فرية الاندماجية عند ابن باديس. أما ان يكون حريصا على علاقات مع عباس فرحات فهذا منطقي وضروري؛ فعباس فرحات رجل سياسة جزائري متميز ووطني مهما كانت الاختلافات، وهذا يحسب للإمام ولا يحسب عليه.. وبالتأكيد فإن الأستاذ احميدة مطلع على مقالة الإمام بعد تشكيل الوفد وكلمته بعد ذلك، وهو يحدد ردة الفعل على الكيفية العنصرية في تعامل الفرنسيين مع حقوق الجزائريين، حيث وجّه خطابه للشعب: "أيها الشعب قد وثبتَ وثبة وبعدها وثباتٌ فإما الحياة وإما الممات".. ان الثورية ليست كلماتٍ متشنجة مغلقة، إنما هي منهج وسلوك تراكمي يحقق الانتصار بتسجيل النقاط، لأن استعماراً كالاستعمار الفرنسي لا يسقط بضربة قاضية، إنما يسقط عندما يكبر الجزائري ثقافة وعلما وحيوية ومشاعرَ وإحساسا وإدراكا وكشفا للمؤامرة وتوفيرا متواصلا للشروط... وهذا يتطلب عملا منهجيا متطورا، وهكذا كانت ثورة التحرير المجيدة نتاجا لحراك ومواجهات مع العدو مرت بالثقافة والتعليم وامتلاك اللغة والمفاصلة الحضارية والمواجهات والمجازر والعمل السياسي لحزب الشعب والقوى السياسية الفعالة.. وفي هذا الباب لم يراع الأستاذ احميدة العلمية في مناقشة مشروع ابن باديس وذهب لاقتطاع مواقف وكلمات ويُخرجها من سياقها ويحكم بها على ابن باديس، ولعل الأستاذ احميدة يدرك ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مكة -وهو مرجعية ابن باديس- واجه قتل أصحابه بأن قال لهم "صبرا إن موعدكم الجنة"، فهل كان الرسول في هذا متخاذلا متواطئا متنازلا عن دم أصحابه وإخوانه؟! ويعرف الأستاذ احميدة ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة لم يقبل مجرد كشف غطاء امرأة مسلمة من قِبل أحد الفاسدين فأجلاه ومن والاه عن المدينة.. أما التخلي عن رفيق دربه الشيخ الطيب العقبي، فلا اعرف كيف حكم الأستاذ حميدة بهذا مع انه مفترض ان يكون قد قرأ ما قاله ابن باديس أثناء محاكمة الطيب العقبي؟ لقد كتب ابن باديس يقول: ان محاكمة الطيب أقسى على قلبه من يوم فقدانه لابنه الوحيد.. وكان ابن باديس يعرف ان المطلوب من خلف التلفيقات على الشيخ الطيب رأس الجمعية التي بدأ الاستعمار يتنبه إلى خطورتها الحقيقية على المشروع الاستعماري برمته.. أما ان يبتعد العقبي عن الجمعية ويختلف مع الإمام فهذا أمر متكرر في كل الجمعيات والأحزاب والتيارات؛ فلقد تفسخت الأحزاب والجماعات في الجزائر في حزب الشعب وسواه كما في كل بلد عربي، وتنابز القادة وتصارعوا، لكن ينبغي ان لا يقود هذا إلى الطعن غير المفسَّر وغير المبرر في الخط والاتجاه بما ليس فيه. أما تأسيس الجمعية، فإن كلام الأستاذ احميدة حقيقة يحتاج سؤالا وهو: من كنت تتوقع ان يقود الجمعية من بين التيارات المحتشدة فيها لحظة التأسيس؟ أتتوقع ان تقودها مجموعات طرقية؟ او شخصيات دينية لا مشروع عندها ولا رؤية؟ أم ان مجموعة من الشباب المجددين المتفتحين أصحاب مشروع وتنظيم وخطة؟ ثم ان غمز الأستاذ أحميدة إلى عملية انتخاب ابن باديس رئيسا للجمعية في غيابه أمر محير حقا.. ما هذه المناورة البراغماتية التي لا وجود لها إلا في تصور الأستاذ احميدة؟ فماذا كان ينقص المؤامرة لو حضر ابن باديس بشخصه الانتخابات وتكلم وفسر وشرح وهو المفوّه المحترم؟ أما التأخر عن الانخراط في الثورة، فهذه يا أستاذ أحميدة قولة مخالفة للواقع التاريخي؛ فإن بيان جمعية العلماء المسلمين قد صدر من القاهرة بتوقيع الشيخ الإمام البشير الإبراهيمي في 2 نوفمبر 1954 مؤيدا للثورة وداعيا إلى الانخراط فيها، وكان الشيخ العربي التبسي زعيمها الروحي في الجزائر يرد عنها سفسطة الشيوعيين والسياسيين "العقلاء" ويدعو إلى الانخراط فيها ومعه الشيخ عبد اللطيف سلطاني، حيث نزل الإثنان إلى العاصمة بناء على تفاهم بدورهما مع قيادة الثورة في أيامها الأولى.. ولعل الأستاذ أحميدة عياشي يعرف ان رجال الجمعية منذ انطلاقة الثورة شغلوا مواقع قيادية في اكثر من صعيد جهادي عسكري وإعلامي وسياسي وهذا قبل ان يلتحق عبان رمضان رحمه الله بالثورة. عجبتُ كثيرا كيف تتحول المواقف البطولية إلى مشهد ساخر، وحزنت كيف يتم تكسير رمزية القادة الكبار الذين صنعوا طريقا لخلاص الشعب بكيفية هازلة، حيث حول الأستاذ أحميدة العياشي موقف الإمام عندما ساومه الحاكم الفرنسي بأن عليه ان ينسحب من جمعية العلماء مقابل الإفراج عن أبيه المخالف لقوانين الضريبة الفرنسي، وكيف غادر الإمام مقر الحاكم الفرنسي إلى مقر الجمعية لا يلوي على شيء، وعندما وصل أرسل إلى الحاكم الفرنسي رسالة من كلمتين فقط "اذبح أسيرك"، وعقّب الإمام على الموقف قائلا: أدركتُ اليوم فقط نعمة اليتم! الأستاذ احميدة رأى في نشأة الإمام ابن باديس مثلبة تشينه، وكرر ذلك مرارا، ولكن عندما رأى في انفصال ابن باديس عن بيئته غمز إلى كون ذلك عقابا وبراءة من العائلة وسوى ذلك من اشارات لتقليل قيمة ابن باديس في الحس والوجدان.. ما يعرفه الأستاذ احميده او قد لا يعرفه ان ابن باديس عاف الدنيا كلها وأوقف نفسه من اجل الجزائر والإسلام وانه هجر الملذات ونعيم الحياة المرفهة وألزم نفسه غرفة في مسجده قضى فيها حياته، الأمر الذي لم تطِقه زوجته فطلقها معتكفا في محراب الوطن، وكان مثالا للأخلاق والقدوة وعفة النفس والطهارة.. اكتفيت هنا بالاقتراب بهدوء من حديث الأستاذ احميدة عن الجمعية وابن باديس، ولكني اؤكد ان الموضوع فعلا يحتاج إلى اثراء لكي تعرف اجيال الجزائر عناصر عظمة قياداتها التاريخية التي صنعت المفاصلة مع الاستعمار ثقافيا وروحيا والذين كان على رأسهم بلا شك الإمام ابن باديس معجزة الحياة في الجزائر.