أرض عبدتها دماء الحرب الأهلية.. طرق مهدتها عشرات الآلاف من جثث المقتتلين من أبناء الوطن الواحد.. بوابات فتحت على مصراعيها أمام عدو جبان يعشق الحروب السهلة ويهوى الطعن من الخلف.. اجتاح ودمر وقتل باحثا عن مجد صهيون.. أسقط لبنان لكنه كان السقوط الأغرب في التاريخ.. سقوط صنع أعظم أمجاد وانتصارات العرب وفتح بوابات الجحيم على "إسرائيل" التي سقطت بدورها في مستنقع لن تخرج منه حتى نهايتها. * تمر هذه الأيام الذكرى التاسعة لأعياد تحرير لبنان.. التي تسمى على الجبهة الأخرى نكسة "إسرائيل".. ففي مثل هذا اليوم خرج الاحتلال الصهيوني في جنح الظلام يجر أذيال الهزيمة التي تذوق فظاعة مرارتها طيلة 18 عاما من الاحتلال.. وهو الذي زج بكل قوته العسكرية في عام 1982 ليضم لبنان إلى حظيرته الاستعمارية، دخل الأراضي اللبنانية في وقت لم يبق من أعدائه فيها سوى مجموعة قليلة من المقاتلين الفلسطينيين كانوا على وشك الخروج نهائيا من لبنان، فخرج بعد أن خلق بيديه أكبر وأشرس عدو يهدد كيانه ويوسع من دائرة المتحفزين للقضاء على احتلاله واقتلاع جذوره من المنطقة العربية.. دخل مستهينا بالمعتدى عليهم، فتسبب غروره وعدوانه في ميلاد المقاومة الإسلامية اللبنانية التي أذلته ومرغت أنفه في التراب منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم.. فبات حزب الله صنيعة صهيونية بمفهوم آخر بعيد عن الخيانة والتآمر ولصيق بالتحدي والأنفة العربية التي لا تقبل الخضوع لعدو أو الركوع لمحتل، فحملت تلك الأيام فيضا من المعلومات والأسرار. * * القضاء على المقاومة الفلسطينية يبدأ من لبنان * * كل التحاليل الاستخبارية الصهيونية تؤكد أن القضاء على المقاومة الفلسطينية يبدأ من لبنان، وإنهاء "كابوس حماس" لن يتحقق إلا بالقضاء على حزب الله، هذه النظرية لم تكن وليدة اليوم، بل ظلت محورا للصراع بين الكيان ولبنان، نعود لعام 1978 الذي شهد بوادر العدوان الصهيوني على لبنان، حيث أقدم الكيان على احتلال الجنوب وفرض ما أسماه الشريط الأمني ليحد من هجمات المقاومة الفلسطينية على العمق الصهيوني، بعدما قررت حكومة مناحيم بيغن احتلال كل الأراضي الواقعة جنوب الليطاني بمساعدة عدد من العملاء اللبنانيين بقيادة الرائد سعد حداد ثم أنطوان لحد، وذلك لإنهاء نشاط المقاومة الفلسطينية التي احتضنتها الأراضي اللبنانية منذ عام 1968، ولأن عملية "الليطاني" كانت سهلة ولم تجد مقاومة تتصدى لها سواء في لبنان أو العالم العربي، فقد استغلت نفس الحكومة الصهيونية الفرصة لتقرر اجتياح لبنان برمته في العملية التي سميت صهيونيا "سلام الجليل" في إشارة إلى أن الاحتلال يهدف لتأمين مستوطنات الجليل بشمال فلسطينالمحتلة، فوصل الاحتلال حتى العاصمة بيروت، وبعد مرور 5 أيام على الغزو أصدر مجلس الأمن قراره العقيم رقم 425 القاضي بضرورة انسحاب "إسرائيل" من الأراضي اللبنانية، وتشكيل قوة دولية تشرف على الانسحاب وتعيد السلام وتساعد الحكومة اللبنانية في السيطرة على أراضيها، لم يمتثل الكيان الصهيوني كعادته للقرار، ولم يحرك المجتمع الدولي ساكنا، وترك اللبنانيون ليواجهوا مصيرهم بأيديهم، في الوقت الذي عكفت فيه تل أبيب على تدريب وتجهيز وتقوية عملائها فيما عرف بجيش الجنوب ليمارس أبشع عمليات التنكيل والتطهير العرقي في حق الشعب اللبناني، ومن رحم الهزيمة والاحتلال وشلالات الدماء كان جنين المقاومة على وشك الخروج للدنيا. * * الإعلان عن ميلاد العدو اللدود لإسرائيل * * ظن الاحتلال الصهيوني أن أقدامه الاستعمارية تثبتت في لبنان إلى الأبد، وفجأة فزع على وقع دوي الانفجارات في كل مكان، لم يتمكن لمدة من الكشف عن مشعل النار في صفوفه، وظلت خسائره ترتفع يوما بعد يوم دون أن يصل لمنفذها، هذا الأخير الذي نصب الكمائن والعبوات الناسفة حتى تمكن من شل تحركات الصهاينة، في الأراضي التي استولوا عليها، ولم يفصح عن هويته إلا وهو يزف شهداءه الذين نفذوا عدة عمليات استشهادية نوعية أحدثت خسائر فادحة في صفوف المحتل، وفي الوقت الذي عكف فيه الموساد على وضع الخطط للإيقاع بالخصم الجديد، كان الأخير قد نصب منصات الصواريخ مستهدفا لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني العمق الصهيوني، ومع وصول الكاتيوشا للمستعمرات الصهيونية في الشمال الفلسطيني المحتل أعلن عن ميلاد المقاومة الاسلامية اللبنانية التي بدأت رحلة التحرير بمثابرة وعزم، أجمع الخبراء في العالم على أنها أقوى وأذكى مقاومة عرفها التاريخ، استنادا لدقة عملياتها في تحديد الأهداف والمفاجأة وتأمين خطوط الانسحاب، وامتلاك جهاز استخباراتي مدرب. * ويستشهد الخبراء العسكريون بإحدى عمليات حزب الله التي نفذها عام 1997 للتدليل على مستوى التخطيط والتنفيذ الفائقين الذي وصل إليه الحزب، والتي تسمى "عملية أنصارية" والتي قام فيها رجال الحزب باستدراج مروحية صهيونية على متنها 16 مقاتلا من نخبة القوات الصهيونية الخاصة "نخبة النخبة" لتبيدهم جميعا، وتحتفظ بجثثهم، بالطبع كان لتلك العملية أصداؤها في ذلك الوقت، قبل أن ينفذ حزب الله بعدها عشرات العمليات التي تفوقها قوة ونوعية. * وبالرغم من أن محدودية وضعف إمكانيات المقاومة الإسلامية اللبنانية قياسا بترسانات المحتل أو حتى عملائه آنذاك، إلا أنها استطاعت بعاملي الإيمان بالقضية وحسن التخطيط خوض الصراع بقوة محسوبة، وكان النهج العام لتلك المقاومة يعتمد على حرب العصابات والعمليات الاستشهادية، الأمر الذي أجبر المحتل على الانسحاب من بيروت والتموقع في الجنوب اللبناني، الذي أصبح مسرحا للاقتتال بين الطرفين طيلة 18 عاما، تلك السنوات كبدت العمليات العسكرية الناجحة لحزب الله الاحتلال الصهيوني خسائر سنوية بلغت 23 قتيلا، ومئات الجرحى، وعددا كبيرا من الأسرى، وكان عام 1988 أول الأعوام التي شهدت خسائر معتبرة في صفوف الاحتلال، حيث قتلت المقاومة الإسلامية 36 جنديا وجرحت 64 آخرين أصبحوا معاقين، وخطفت جنديين، وبلغ متوسط العمليات العسكرية التي شنها الحزب في الفترة من 1989 وحتى 1991 نحو 292 عملية، وفي الفترة بين عامي 1992 و1994 بلغت 465 عملية، أما في الفترة بين 1995 و1997 فقد بلغت 936 عملية، وكانت حصيلة القتلى الصهاينة خلال مدة الاحتلال أكثر من 1200 قتيل، وفي المقابل سقط من صفوف المقاومة 1262 شهيدا. * * المقاومة اللبنانية تصنع انكسارات قادة الكيان الصهيوني * * وفي أوج الحرب بين حزب الله والاحتلال الصهيوني، تعالت الأصوات من داخل المجتمع الصهيوني لتطالب بالانسحاب من "المستنقع اللبناني"، وكانت حركة "الأمهات الأربع" من أشهر الحركات المطالبة بالانسحاب، وتأثر الصهاينة بالضربات الموجعة التي نفذتها المقاومة وجعلت الوجود الصهيوني في لبنان كارثة حقيقية، فحاول رئيس الوزراء "شمعون بيريز" الهروب الأمام بالإعلان عام 1996 عن انطلاق عمليته العدوانية والقذرة "عناقيد الغضب" والتي رغم بشاعتها وهول المجازر التي ارتكبت فيها فشلت، ليخرج من منصبه بفضيحة على وقع هذا الفشل، ليستلم نتانياهو المغرور مقاليد الحكم وهو مطمئن لحسم ملف المقاومة الإسلامية، فوعد شعبه بأنه سيعيد هيبة الجيش الذي كسرته كاتيوشا حزب الله، وتحت شعار "لبنان أولا" خرج نتنياهو معلنا عن خطته التي قرر فيها بدلا من الضغط على سوريا لتطلب من حزب الله وقف استنزاف الجنود الصهاينة في جنوب لبنان، التوجه مباشرة لضرب سلاح حزب الله ومن ثم انتزاع ضمانات أمنية من لبنان وسوريا تمهيدا للانسحاب نهائيا من الحزام الأمني، خطة نتانياهو رمت إلى مواجهة مقاومي حزب الله بشكل مباشرعبر اختراق خط تواجدهم برا، لكن ومع الأيام الأولى للعملية سقط عشرات الصهاينة قتلى دون التمكن من اختراق خطوط دفاع حزب الله، فعمد نتانياهو للاعتماد على لوائي جفعاتي وغولاني ووحدة ايغوز المدربة على قتال حزب الله لكن كل تلك القوات لم تستطع الصمود أكثر من عام واحد، فلجأ نتنياهو إلى نقل جنود الوحدات الخاصة عبر المروحيات العسكرية لإنزالهم داخل خط المقاومة، وفي فيفري عام 1997 قتل 73 من هؤلاء الجنود دفعة واحدة بعد أن تمكن حزب الله من إسقاط مروحيتين تقلهم بصواريخ مضادة للطائرات، الأمر الذي أجبر الصهاينة على وقف عمليات الإبرار الجوي، واللجوء للبحر من أجل تنفيذ خطية الاختراق، واختار نتنياهو شخصيا نخبة النخبة في جيشه لتنفيذ عمل أمني كبير يبدأ في بلدة أنصارية على الساحل الجنوبي للبنان، يستهدف السيد حسن نصر الله وقيادات حزب الله، لكن عبوات المقاومة كانت في انتظارهم، فعاد أبطال المعبد جثثا هامدة ومن عاش منهم رجع بدون ساقيه، ليتأكد نتانياهو أن الوجود الصهيوني قد بتر بالفعل من لبنان. * * إشعال الحرب الأهلية السبيل الأخير * * وأمام هذا الفشل الذريع جاءت الانتخابات الصهيونية مرة أخرى نهاية عام 1999 لتعصف بحزب الليكود وزعيمه نتانياهو أمام عضو حزب العمل الجنرال ايهود باراك الذي نجح بفضل برنامج سياسي عنوانه الانسحاب من لبنان في السابع من جويلية 2000. * لكن باراك كان أمام خيارين لا ثالث لهما ليتم هذا الانسحاب، أولهما الانسحاب الأحادي بلا أي ضمانات وهذا يعني الهزيمة، والثاني انسحاب بموجب اتفاق يضمن الأمن للمستعمرات الشمالية ويحقق كما معقولا من المكاسب السياسية، وهذا ما تمناه، فطالبت واشنطن من دمشق المساهمة لتحقيق مسعى الانسحاب الصهيوني من لبنان، لكن الرئيس الراحل حافظ الأسد أصر على أن يمتد الانسحاب ليشمل * الجولان، مما جعل الاتفاق مكلفا للغاية في نظر الصهاينة، وهنا وجد باراك أنه مقبل لا محالة على الإعلان عن هزيمة بلاده في لبنان، فقرر اللجوء لجيش العميل "أنطوان لحد" لينوب عن "إسرائيل" في مهمة حفظ أمنها في جنوب لبنان ومقاتلة حزب الله، كانت خطة باراك تهدف إلى ترك لبنان مشتعلا تأكله الحرب الداخلية مرة أخرى دون أن تتكبد "إسرائيل" أية خسائر، لكن المقاومة اللبنانية تفطنت للمؤامرة وقررت قتلها في المهد. * * خطة المقاومة للقضاء على الجيش الصهيوني * * وبينما كان التخطيط جار من قبل قيادات المقاومة للقيام بعملية عسكرية برية كبيرة لطرد المحتل وعملائه، وصلت معلومات لغرفة قيادة المقاومة تفيد بأن الطريق إلى بلدة القنطرة المحتلة أصبحت آمنة بعدما أخليت على عجل المواقع العسكرية الصهيونية وقوات أنطوان لحد، كان ذلك في يوم 20 ماي، لتقرر المقاومة التحرك بسرعة لمطاردة فلول العدو وعدم تمكين القوات العميلة من التمركز في مواقع الاحتلال، فتحرك الآلاف من جنود الحزب حاملين شعار "مسيرة التحرير"، واعتمدت خطة المقاومة على مباغتة العملاء وإجبار الجيش الصهيوني على الخروج من لبنان مهزوما بعد تكبيده خسائر كبيرة تجعله يفكر ألف مرة قبل العودة للبنان، لكن الصهاينة كانوا قد قطعوا مسافة طويلة في رحلة الانسحاب، تاركين خلفهم المعدات الثقيلة، ولم يأخذوا إلا ما خف وزنه وغلا ثمنه، حتى المعتقلين في معسكر الخيام لم يكن لديهم الوقت الكافي لنقلهم إلى "إسرائيل" أو حتى تصفيتهم، * وعلى الجانب الآخر، ومن أجل إنجاح عملية التحرير عمد حزب الله إلى مزج العمل العسكري بالثورة الشعبية، فحشد الأهالي الذين أجبروا على ترك ديارهم بالجنوب منذ عام 1978 حاملين رايات الحزب ليتبعوا الجنود المسلحين، كانت العملية دقيقة ومحكمة التخطيط، الأمر الذي جعل قوات أنطوان لحد تهرب بدورها صوب حدود فلسطينالمحتلة، وفي 21 ماي أعلن عن تحرير بلدة الغندورية المتاخمة لمنطقة الحزام الأمني، وفي نفس اليوم دخلت قوات حزب الله مدينة القنطرة وحررتها، ثم حررت ديرسريان وعدشيت والقصير، وترقب الجميع هول معركة كبيرة في بلدة الطيبة أين يوجد أقوى الحصون الصهيونية المجهزة بأحدث الأسلحة الدفاعية، لكن ما هي إلا ساعات حتى دوت انفجارات تدمير الحصن بصواريخ المقاومة، وفي يوم 21 ماي تحررت بنت جبيل ومرجعيون، وانهار الحزام الأمني المصغر الذي رسمه أيهود باراك لحماية المستعمرات الشمالية، وفي يوم 23 ماي وبعد أن تأكدت من فرار الجيش الصهيوني، أعلنت فلول جيش أنطوان لحد أنها ستلقي سلاحها وتسلم نفسها، ولم يستوعب قادة جيش العملاء منظر جنودهم وهم يلقون السلاح، فقرروا اللحاق بركب المنسحبين، وهناك على حدود فلسطينالمحتلة رسموا نهاية منطقية لكل خائن وعميل يبيع نفسه للعدو.