اختتمت الأحد المنصرم بعد خمسة أيام من المناقشات دورة أخرى من الدورات السنوية لمنتدى "دافوس". والذين لا يعرفون هذا المنتدى يجهلون أن منتجعا بجنة الضرائب سويسرا يقع بين جبال الألب البيضاء يسمى منتجع "دافوس" يحتضن مرة كل سنة كبار أثرياء العالم من الأفراد والشركات الأكثر تأثيرا في القرار المالي والاقتصادي للدول. * وينعقد المنتدى استثناء في مكان آخر من حين الى آخر كما حدث في شرم الشيخ صيف العام 2006. ويحضر المنتدى الى جانب رجال الأعمال رجال السياسة أيضا. وعلى الذين يرغبون في دخول المنتدى دفع رسوم الاشتراك السنوي التي قد تصل الى 29 ألف يورو أي 42 ألف دولار. * وحضر الدورة هذه المرة 3 آلاف مشارك من 96 دولة بينها دول عربية. فماذا قدم العرب في هذا الحدث العالمي الكبير من إضافات؟ ومن هم اللاعبون المستفيدون أولا من اجتماع ناقش خلاله المشاركون 200 ورقة عمل في خمسة أيام؟ * * رائحة النفط * * شارك العرب كلهم في منتدى دافوس لهذا العام عن طريق الجامعة العربية التي حضرت الجلسات العامة ممثلة في أمينها العام عمرو موسى. ولم يقدم المشاركون العرب في جلسات النقاش شيئا يذكر على العكس تماما من الدول الصناعية والدول الناشئة الأخرى التي دافعت عن وجهة نظرها بشأن الأزمة الاقتصادية التي تجتاح العالم. وهكذا رافعت ألمانيا من أجل "ميثاق اقتصادي عالمي" و"مجلس اقتصادي دولي" شبيه بمجلس الأمن. ورافعت روسيا من أجل فك الارتباط بالدولار على الصعيد العالمي. ورافعت الصين من أجل نشر التعاون الاقتصادي الدولي ليشمل الدول الناشئة. ودافعت بريطانيا على مبدأ "الحمائية الوطنية" في وجه العولمة. وذهبت أمريكا الى طلب العون للتغلب على إكراهات الأزمة الاقتصادية العالمية. وانتدب الأمين العام لهيئة الأممالمتحدة مدافعا عن مصالح الدول النامية والدول الأكثر فقرا المتضررة الأولى من الرأسمالية العالمية. * أما هيئة المنتدى ممثلة في رئيسه "كلاوس شواب" فقد دعت الى دعم جهود مجموعة العشرين في إطلاق نظام اقتصادي دولي جديد على آفاق شهر جويلية القادم تاريخ اجتماع الثماني الكبار بإيطاليا. * واللافت في دورة هذا العام من دورات منتدى دافوس السنوية هو عدم إثارة موضوع الطاقة الذي ظل لسنوات طويلة محورا مهما من محاور مناقشات المنتدى. وربما يعود ذلك الى ثقة الجميع في أن سعر النفط سيظل على مستواه الحالي لسنوات أخرى، وهو المستوى الذي يخدم مصالح المستهلكين الكبار ويوفر للدول الصناعية فرصة جديدة لتكوين مخزونات مجدية تحسبا للمستقبل. فالسوق النفطية فائضة بأكثر من نصف مليون برميل يومي، ما جعل رائحة النفط تملأ أجواء منتجع دافوس كي تنسي الجميع هموم الطاقة. * * الرؤية شرقا * * أجمع المشاركون في "دافوس 2009" على ضرورة أن يتحلى النظام الاقتصادي الدولي الجاري تشكيله بحد أدنى من الأخلاق. وقد أبرق الرئيس الأمريكي الجديد الى المنتدى برسالة مشفرة كان وجهها الى المتعاملين في بورصة "وول ستريت" خلال انعقاد المنتدى نبههم فيها الى أن المكافآت الناتجة عن التسيب وانعدام المسؤولية يجب أن تتوقف الى أجل، وأن حدا من المسؤولية والمبالاة يجب أن يلتزم به الجميع. وسرعان ما توجت هذه الرسالة جلسات الحوار كي يدعى الى تطبيق المسؤولية الاقتصادية على النطاق العالمي. مسؤولية عرفت بها الاقتصادات الآسيوية ذات الطابع الاجتماعي مثل الصين وماليزيا واليابان وكوريا الجنوبية، وتتمثل في شفافية المعلومات والمعاملات وفي منظومة جديدة للرقابة الدولية على الأسواق وحركة رؤوس الأموال. العالم إذن ينظر شرقا، الى دول لم تتجاوز فيها الأزمة الخطوط الحمراء على سلم معدلات النمو كما هو الشأن في منطقة اليورو وأمريكا. وربما صار يلتمس الحكمة من النظريات الاجتماعية والأخلاقية المنافسة للنظرية التقليدية التي بنت عليها الرأسمالية أساسياتها * * المخاوف تزداد * * فقدت السوق الأمريكية خلال الأيام الخمسة من أشغال منتدى دافوس لهذا العام مائة ألف منصب شغل لينضم العاطلون الجدد الى قائمة قد تصل الى 3 ملايين عاطل مع نهاية السنة. وفي الصين أعلن عن فقدان 20 مليون وظيفة. ويتوقع أن تفقد سوق الشغل خلال العام الجاري 50 مليون وظيفة على الصعيد العالمي. وفي بريطانيا أعلن رسميا عن حالة ركود لم تشهدها المملكة -التي لم تكن الشمس تغيب عنها يوما ما- منذ 80 سنة. وفي جزيرة إيسلندا قدمت الحكومة اليمينية استقالتها على خلفية إفلاس الدولة لتعلن الحكومة الجديدة عن لجوئها للبنك العالمي كمنقذ أخير لاقتصادها. * مؤشرات غذت مخاوف المراقبين بشأن التجارة الدولية وسياسات الغرب الرأسمالي الاقتصادية، فمن المنتظر أن تتبنى هذه الدول سياسات جديدة توصف بالحمائية أمام انسياب التجارة حماية لسوقها الداخلية من منافسة لم تكن في الحسبان، كما أن حاجة الموازنات في تلك الدول الى موارد ثابتة من السيولة جراء خطط الإنقاذ التي ما تزال تطبقها قد تدفع الى فرض قيود جمركية جديدة على حركة السلع، كما قد تتسبب موجة الخسارة في الوظائف الى التخلي عن العمالة الأجنبية لصالح المواطنين. * اجتمع كبار العالم إذن في منتجع دافوس على أمل المساهمة في حل معضلة كبيرة اسمها "الأزمة الاقتصادية العالمية" وانفض الجميع على حلم أن تحتفظ الدول الرأسمالية بكيانها ولو بالرجوع مرة ثانية الى الدولة القطرية أو الوطنية، حلم اجتمع حوله آلاف المتظاهرين خارج قاعة المنتدى من مناهضي العولمة، وربما تحقق عندما يقتنع الجميع بأن لا صوت يعلو على صوت المصلح.