مرة أخرى تنسى الجزائر الثقافية أبناءها من المبدعين، وبهذا النسيان أو الجحود أو الجهل تخلق منهم غصبا عنهم خصوما لها ومرات للأسف أعداء وما هم كذلك، لنتذكر الروائية أحلام مستغانمي التي استقرت في بيروت ماذا كانت ستكون لو أنها مكثت في هذا البلد، هل كان بإمكان الجزائر الثقافية بمؤسساتها ومهرجاناتها ومعارضها "الكثيرة" العدد والعدة أن تصنع منها ما هي عليه الآن من مكانة أدبية عربية وعالمية كبيرة؛ مكانة تشرف الجزائر وترفعها ثقافيا وأدبيا عاليا. وحدها استطاعت أحلام مستغانمي أن تعيد الحديث الحضاري العالي عن الجزائر عربيا، بعد أن اختصر هذا الخطاب عن بلادنا إلى خطاب عن الدم والإرهاب والعنف. * * الكتاب الأبيض للثقافة في الجزائر - الحلقة 3 - * بعد أن أرسلت احلام مستغانمي كثيرا من الروائيين الجزائريين والعرب الذين كانوا يصنفون في خانة الكبار، أرسلتهم إلى التقاعد الأدبي المبكر وغير المعلن أو أرسلتهم إلى قاعة الانتظار، ها هي تعيد الجزائر إلى الصدارة الأدبية بكل جنون الروائية وبكل عشقها لبلدها. أعتقد أن لا أحد من الكتاب والمثقفين الجزائريين استطاع أن يحقق للجزائر حضورا عربيا معاصرا بعد ذاك الحضور العظيم الذي حققته لها الثورة الجزائرية المباركة مثلما فعلت أحلام مستغانمي. إن روايات أحلام مستغانمي (ذاكرة الجسد، فوضى الحواس وعابر سرير) وعلى الرغم من ضعف حضارة الكتاب في العالم العربي استطاعت أن تعيد للحضور الجزائري ألقه وأن توصل العبقرية الجزائرية إلى ملايين القراء العرب. * كاتبة أخرى ومن الجيل الذي جاء بعد أحلام مستعانمي كانت هي الأخرى في بلادنا نسيا منسيا ولو ظلت هكذا لكانت اليوم قبرا مهجورا، لكانت رقما من أرقام الديمغرافيا دون معنى، أعني بذلك الروائية المبدعة فضيلة الفاروق صاحبة (تاء الخجل ومزاج مراهقة ولحظة لاختلاس الحب). لقد أصبح هذا الاسم الأدبي اليوم اسما عربيا كبيرا ومشعا. كانت فضيلة الفاروق قبل أن تشد الرحال إلى بيروت مهمشة في مدينة هامشية، تموت موتا جزائريا. تموت بالبارد؟؟؟؟ * فضيلة الفاروق وأحلام مستغانمي ليستا وحدهما وإن استطاعتا أن تحاربا الموت أو اغتيال المثقف والمبدع فيهما برحيلهما إلى بيروت والتعامل مع فضاء يحتفل بالمبدع حين تكون ناجحا ولا يخدعك بالنفاق حين تخطئه بل إن روائيا شابا آخر هو عمارة لخوص (صاحب كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك والبق والقرصان) بعد أن ضاقت به السبل الثقافية وشعر بأنه مهدد في وجوده الرمزي، استقر في إيطاليا ليكتب هناك بالعربية وينتقل مؤخرا وبكل جرأة لتجريب الكتابة باللغة الإيطالية ويؤسس دار نشر شرق/غرب، أول دار نشر عربية في إيطاليا. لقد استطاع عمار لخوص أن يصبح ظاهرة أدبية في بلد لم يتعود المثقفون والأدباء الذهاب للاستقرار فيه، استطاع هذا الروائي أن يخترق الصمت وأن يحفر له مسارا متميزا في أدب المهجر العربي، وأتصور شخصيا أن هذا الاسم سيكون مفاجأة الأدب العربي في السنوات القليلة القادمة. أتساءل وأنا أتابع تجربة الروائي عمارة لخوص وامتداداتها العالمية في الترجمة والتكريمات، أتساءل ماذا كان يمكن أن يكون مصير هذا الأديب لو أنه ظل هنا في الجزائر؟ * كما لا يفوتني هنا أيضا أن أقف عند تجربة جزائرية أخرى هي تجربة الشاعر المتميز عياش يحياوي الذي بعد أن قتله الصمت الجزائري أو كاد، وهو المبدع الحساس والشفاف العميق، هاجر إلى دولة الإمارات العربية وهو الآن يقيم بأبو ظبي، إقامة ثقافية تحمل كل دلالات الاحترام والتقدير، وفي هذا التواجد الثقافي النوعي بدول الخليج استطاع أن يحفر اسم الجزائر بشرف، وإن ما حققه الأديب عياش يحياوي في منفاه ما كان له أن يحقق الربع منه لو أنه ظل في فضاء الثقافة ببلادنا. وفي الوقت الذي كرمته الإمارات العربية بأعظم التكريمات الأدبية على ما أنتجه من بحوث في التراث والفلكلور فإن بلادنا تصم آذانها عن مثل هؤلاء الأبناء المبدعين المتميزين. * حين أسوق مثل هذه الأسماء التي تصنع صورة الجزائر بقوة وجمال وتعدل وترمم ما أصاب وجه الجميلة الجزائر من تشويه وندوب حتى كادت أن تشيخ وهي الشابة اليافعة، فإن هذا لا يعني أبدا أننا نطالب بعودتهم، فهذا أمر شخصي تماما ولكن ما نطالب به هو احترام هذه الرموز الثقافية بوصفها كرأسمال الوطني الكبير الموظف في بنوك الثقافة العالمية. * وبقدر ما يتعرض له المبدعون من جحود ونكران، فيضطرهم ذلك للهجر والهج، فالفضاءات الثقافية العظيمة على أرض الجزائر هي الأخرى تتعرض للاغتيال المنظم أو العبثي الجاهل. لقد منح التاريخ الطويل بمره وحلوه من خلال الأمم التي تعاقبت على بلادنا فضاءات كبيرة في دلالاتها التاريخية والثقافية التراثية قل أن نجد لها نظيرا في العالم. وسأكتفي بذكر نموذجين من هذه الفضاءات التي لها وزنها الكبير عربيا وعالميا. وفي الوقت نفسه سأصف ما آلت إليه مثل هذه الفضاءات من حال الإهمال والاغتيال وهي التي تعد مفخرة ثقافية إنسانية لبلادنا. * * 1- مغارة سرفانتيس: * هذا الفضاء الكبير برمزيته وبكل دلالاته الثقافية العالمية، للتذكير إن مغارة سرفانتيس ((1547-1616 موجودة في أعالي الحامةبالجزائر العاصمة، غير بعيد من مؤسستين ثقافيتين وطنيتين هما المكتبة الوطنية والمتحف الوطني، هذه المغارة التي آوى إليها سرفانتيس حين هروبه من السجن، والتي قضى فيها فترة طويلة والتي فيها بدأ التفكير في كتابة عمله الشهير دون كيشوط دي لامانتشا (هذه الرواية التي وزع منها الرئيس الفنزويلي هيغو شافيز مجانا مليون نسخة على مواطنيه ليتذوقوا الأدب العالي)، هذه المغارة مهملة وكأنها لا تحمل أية دلالات انسانية ثقافية. * كان من المفروض أن تكون هذه المغارة إرثا عالميا مسجلا في ربرتوارات اليونيسكو لما لسرفانتيس من كبير الوجود في الآداب الروائية. كان على الجزائر الثقافية بالتعاون والتنسيق مع السلطات المحلية والدولية أن تحول هذه المغارة الجميلة التي تطل على ميناء العاصمة برؤية مثير للدهشة والادهاش، كان علينا أن نحول هذه المغارة/ الذاكرة بقليل من الذكاء وكثير من الحب إلى مكان يحج إليه كل الروائيين العالميين وجميع محبي سرفانتيس من إسبانيا وأمريكا اللاتينية والعالم، وكان من المفروض أن ينشط هذا الفضاء ليتحول محيطه إلى قطب اقتصادي وسياحي نموذجي في المتوسط. كان على الجزائر الثقافية بالتعاون مع الوصاية السياحية والمجتمع المدني أن تؤسس لفضاءات في جوار المغارة بالتنسيق المدني مع أهالى الحي، لتجعل من هذه الفضاءات حيزات ثقافية واقتصادية وسياحية عالية المقصد دون المس بطبيعة الحال بهندسة المكان أو تشويهه وذلك بالاعتماد على معماريين متخصصين لا أصحاب الجرافات والبيطون؟؟؟؟؟ لنتخيل مثلا وعلى حفافي مغارة سرفانتيس إقامة مركز توثيق حول سرفانتيس مع فتح إقامات للكتاب والباحثين الذين يشتغلون على هذا الأديب العالمي أو لهم علاقة إبداعية بعالم سرفانتيس أدبيا سينمائيا، مسرحيا أو تشكيليا، ماذا سيكون عليه الفضاء والجزائر عامة؟.**** * عيب أن تمر اليوم أمام هذا الفضاء الرمزي العالي، وهو ما عشته شخصيا الأسبوع الماضي، فتجد مجموعة من الأطفال قد حولوا باحة المغارة إلى ملعب لكرة القدم. إن بلادا جاءها كاتب مثل سرفانتيس مهما كانت الظروف التي جاءها فيها والتي يعرفها العامة والخاصة، ثم تتجاهل هذا الحضور بل ويتم اغتيال المكان دون أن يتكلم أحد أو يتحرك آخر؟؟؟؟ إن الصمت حين يكون مصدره المثقف فتلك مشاركة في الجريمة. * * 2- مغارة ابن خلدون: * لقد منّ الله على بلادنا بشيء رمزي لا تنعم به بلدان أخرى، وأقصد هنا مغارة ابن خلدون ( 1332-1406)، والتي اعتكف فيها من (1375-1378) وفيها كتب الجزء الأول من كتابه الشهير المقدمة. لكن لنتساءل يا الله ما هذا الذي يجري من قنص مثل هذه الأماكن المعرفية الكبيرة ونحن نيام وقد نصحو ذات يوم فيكون الفوت قد فات، إذا كانت مساحة الجزائر أزيد من مليوني كيلومتر مربع فإن مغارة كمغارة ابن خلدون لا تتعدى مساحتها بعض الأمتار، قادرة أن تحول مساحة الجزائر في المتخيل إلى أضعاف أضعافها، وذلك بإعطاء بلدنا بعدا رموزيا خارقا ومتميزا وفريدا. * أريد أن أقول للقارئ بأن مغارة ابن خلدون والتي تسمى (تاوغزوت) توجد على بعد كيلومترات قليلة من مدينة فرندة (ولاية تيارت) وبمدينة فرندة هذه ولد بها جاك بيرك صديق العرب والمسلمين الأول وهو مترجم القرآن الكريم إلى الفرنسية. المدن بذاكراتها لا بإسمنتها. لقد كان التاريخ سخيا تجاه هذه المنطقة بأن وهبها ابن خلدون الذي استقر بها متأملا في عزلة كتابة واعتكاف العالم وأعطاها جاك بيرك الذي ظل يذكرها في كل ما كتب بتقدير ومحبة، لكن ماذا أعطيناها نحن؟ * لا شك أنكم أو على الأقل بعضكم يتذكر مشروعا ثقافيا مهما ومباركا يعود إلى سنة 2003 والمتمثل في إنشاء "مركز الدراسات الخلدونية"؟ * إنني أعتقد أن مشروعا حضاريا مثل هذا والذي من المفروض وبعد ست سنوات أن يكون قد انتهت الأشغال به، هو الممر الحقيقي لإنقاذ وترقية مغارة ابن خلدون وذاكرة هذه الأرض الغنية؟ إنني لأتخيل وأحلم مثلكم لو أن هذا المركز "مركز الدراسات الخلدونية" تم إنشاؤه وإعماره الإعمار الثقافي والتاريخي لتحولت المنطقة إلى مزار لجميع المشتغلين حول ابن خلدون والمتواجدين في كل أصقاع العالم، ولنشطت المنطقة نشاطا ثقافيا وحضاريا متميزا ولحصل هناك توازن في المنطقة برمتها. دون شك بمثل هذه المؤسسات نؤسس الاستقرار الحضاري والديمغرافي ونعطي صورة الأخرى معاصرة عن الجزائر. * علينا أن نعي ما تساويه وما ترمز إليه مغارة ابن خلدون في الذاكرة الإنسانية، حين يتحقق هذا الوعي لدى المثقفين والمبدعين ستتحرك دون شك العامة الطيبة في هذه المنطقة وتتجند معنا لإنقاذ هذه الذاكرة من الضياع. إن مغارة ابن خلدون إرث عظيم يجب العمل على تسجيله كتراث إنساني، وأنا متأكد لو أن هذه المغارة وجدت على أرض جيراننا في الشرق أو الغرب لكان شأنها شأنا آخر ولتحولت إلى "مكة" للخلدونيين والباحثين يجيئونها من كل اتجاه وبكل اللغات، ولكنها؟؟؟؟ * ماذا يحدث، يا ترى، حين يهجر البلد كتابه ومبدعوه خوفا من الاغتيال الرمزي، وتغتال الأماكن الرموزية الكبيرة والتي هي جزء أساسي من ذاكرة الإنسانية والموجودة فوق هذه أرض الجزائر العظيمة، يحدث ما يلي: تتحول الجزائر من وطن يفيض رموزا وتاريخا إلى قطعة أرض صماء قابلة للبناء الإسمنتي Lot de terrain!! * إن الأرض في مفهومها الوطني تراب يتكلم ويحمل رسائل ودلالات أبعد وأعظم من الجغرافيا. إذن لنعيد لهذه الأرض/ الجزائر مبدعيها وذاكرتها التي في غيابها تجن وتفقد التوازن ونضيع من فوقها نحن والأجيال القادمة.