يمكن تعريف مصطلح "المواطنة" بأنها وحدة الانتماء والولاء من قبل كل المكون السكاني في البلاد على اختلاف تنوعه العرقي والديني والمذهبي للوطن الذي يحتضنهم، وأن تذوب كل خلافاتهم واختلافاتهم عند حدود المشاركة والتعاون في بنائه وتنميته والحفاظ على العيش المشترك. ولطالما نادى الديمقراطيون العرب بتطبيق مبدإ المواطنة في العالم العربي، على اعتبار أن ذلك المبدأ قد تجذر في بقية دول العالم الديمقراطية، بينما مازالت الفروقات المذهبية والطائفية والعرقية والقومية والدينية والاجتماعية تحكم مجتمعاتنا. * لا شك أن هناك عداءً تاريخياً بين الفكر العربي والإسلامي التقليدي من جهة والمذهب الفردي من جهة أخرى. وأقصد بذلك "الفردية" التي تقوم على تقديس الفرد بوصفه كائناً مفكراً وصاحب إرادة وقيمة كبرى، بما يترتب على ذلك من إقرار بخاصتين متلازمتين: الاستقلالية والوكالة الحرة. ومثل هذا التصوّر هو الكامن خلف مفهوم الإنسان كصاحب ملكية خاصة، كفاعل في المجال الاجتماعي والاقتصادي، وكمواطن يحق له المشاركة في إدارة الحياة السياسية أو انتداب من ينوب عنه في ذلك، على ما هو شائع في البلدان ذات النظم الديمقراطية الليبرالية، بغض النظر عن لونه وعرقه ومذهبه وانتمائه. لكن مثل هذا الفرد لا مجال لوجوده، بل لا معنى لوجوده الاّ في مجتمع أفراد يأخذون بمثل هذا التعريف للإنسان. ومثل هذا المجتمع غير موجود في العالم العربي. بعبارة أخرى فإن الفردية تكاد تكون غائبة في المجتمعات العربية. وقد لخص الشاعر الجاهلي دريد بن الصمة هذا الوضع المستمر حتى الآن في بيته الشهير: (وما أنا إلا من غزية إن غزت غزيت وإن ترشد غزية أرشد). * بعبارة أخرى، لا أحد ينكر أن العالم العربي أبعد ما يكون عن المواطنة لأساب دينية وأيديولوجية وثقافية، فالعقيدة القومية التي سيطرت على الفكر السياسي العربي منذ منتصف القرن الماضي، مثلاً، ألغت الإنسان كمواطن مستقل لصالح ما يُسمى بالجماعة التي تتقدم مصلحتها وأهميتها ألف مرة على مصلحة الفرد. وكذلك فعلت العقيدة الدينية التي ترفع شعار (ولقد كرّمنا بني آدم)، لكنها ما تلبث أن تلغيه لأغراض مشابهة. * لكن أليس من المبالغة القول إن المجتمعات الغربية أو المسماة ديمقراطية قد حققت مبدأ المواطنة حسب تعريفه السياسي؟ ألا يجب التوقف عن التغني ب"مواطنة" الغرب وتعييرنا بها "عمّال على بطّال"؟ هل كل المواطنين في الغرب مواطنون فعلاً؟ هل الدول الديمقراطية دول لكل مواطنيها؟ أم إنها لناس وناس؟ هل حققت أمريكا زعيمة الديمقراطية في العالم مبدأ المواطنة؟ أم إنها مازالت مثالاً للعنصرية والتفرقة والتمييز والتخندق والتمترس العرقي واللوني والقومي؟ هل دول أوروبا الديمقراطية تقوم على الموطنة فعلاً، أم إن عنصريتها تتنامى، وتتصاعد وراء ستار من المساواة المزعومة؟ * ألا يبقى السود في الولاياتالمتحدة، رغم انتخاب رئيس أسود، مواطنين من الدرجة الثالثة رغم كل التشدق بإلغاء التمييز العنصري وسن مئات القوانين التي تناهض التفرقة؟ هل تحقق حلم مارتن لوثر كنج الشهير: I Have a Dream؟ أليس أكثر المشردين في المدن الأمريكية من السود؟ أليست مناطق السود في نيويورك وواشنطن وغيرهما مثالاً للتعاسة والفاقه والتخلف والحرمان؟ ألا يفوق عدد السود في السجون الأمريكية عدد البيض بعشرات المرات؟ أليس عدد المساجين الملونين في بلاد العم سام أكثر من عدد البيض أيضاً؟ هل مازال المواطن الأمريكي من أصل عربي أو إسلامي مواطناً في بلاد العسل والحليب لمجرد أنه حصل على جنسية ذلك البلد؟ أم إنه يعاني التمييز الاجتماعي والاقتصادي والثقافي بطريقة فاقعة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحتى ما قبلها؟ ألا يتم التمييز ضد المسلمين على أساس ديني؟ كيف يختلف التمييز الأمريكي ضد المنتسبين إلى العقيدة الإسلامية عن التمييز ضد الطوائف والمذاهب الأخرى في البلدان العربية والإسلامية؟ ألا يتعاملون مع الإنسان في بلداننا العربية على أساس مذهبه وطائفته وخلفيته الاجتماعية وانتمائه العرقي؟ كيف يختلف الوضع في أمريكا؟ أليس من السخف الادعاء بأن أمريكا هي بلاد الفرص المتكافئة؟ أليس غالبية الملونين والسود عاطلين عن العمل في بلاد الوفرة؟ * هل مبدأ المواطنة أفضل حالاً في أوروبا؟ ألم نسمع عن انتفاضات الملونين والسود والأجانب في أحياء ضواحي باريس العتيدة؟ أليس معظم الذين ثاروا على الظلم والتفرقة والتمييز في ضواحي العاصمة الفرنسية وحتى الدنماركية مواطنين يحملون الجنسية الغربية؟ فلماذا إذن هم محرومون من حقوق المواطنة التي يتمتع بها الأوروبيون المنتمون إلى الدين المسيحي، ويتمتعون بجلود بيضاء وعيون زرقاء وخضراء؟ ما هذه المواطنة إذا كان هناك في فرنسا "حزب الجبهة الوطنية" الذي يدعو إلى طرد الأجانب، حتى الذين يحملون الجنسية الفرنسية؟ ما الفائدة من المواطنة إذا بدأت هولندا تخيّر العرب والمسلمين الذين يحملون جنسيتها بين التخلي عن جنسياتهم الأصلية والاحتفاظ بالجنسية الهولندية؟ ألم يكن ذلك طريقة ملتوية للتخلص من "المواطنين" المزعومين الذين يفتقدون إلى العيون الزرقاء والعقائد اليهودية المسيحية كي يحل محلهم مواطنو أوروبا الشرقية الذين انتموا حديثاً للاتحاد الأوروبي؟ * هل يشعر "المواطنون" المنبوذون بالانتماء والولاء لل"أوطان" الغربية التي يعيشون فيها، وهو شرط المواطنة الأول؟ بالطبع لا؟ لا شك أنهم يعانون من غربة كبرى، وهو عكس المواطنة. كيف تطالبهم بالاندماج إذا كنت تنبذهم بطرق مختلفة؟ هل ذابت الخلافات والاختلافات العرقية والمذهبية والدينية واللونية داخل المجتمعات الديمقراطية الغربية، أم إنها حية ترزق، حتى لو تم التستر عليها وإخفاؤها؟ * ألا تبقى المواطنة حلماً بعيد المنال حتى في دول "المواطنين" المزعومة؟.