تحولت مباريات كرة القدم إلى أكبر مساحة للتعبير عن الفرحة في الجزائر، مثلما وقع الأحد الماضي بعد انتصار الفريق الوطني على نظيره المصري. لكن ملاعب كرة القدم لا تعبر عن الفرحة فقط، بل كثيرا ما تكون مجالا للتعبير عن الغضب، مع أحداث عنف غير مقبولة، وسلوكات ترفضها الأخلاق ويمنعها القانون وتحاربها الرياضة. وقبل سنة مثلا، قام عدد من سكان مدينة وهران بتخريب مدينتهم بعد أن اضطر فريقهم إلى اللعب في القسم الثاني. * * وبعد مباراة الجزائر ومصر، كانت الفرحة كبيرة، ووجد المواطنون فرصة للتعبير عن رضاهم والابتعاد، ولو لسهرة واحدة، عن "القنطة" التي تسكن الكثير منهم. لكن الفرحة لم تكن خالية من المآسي، حيث أشارت أخبار صحفية إلى وفاة شخص وإصابة ما يفوق المائة بجروح خلال الأحداث التي رافقت المقابلة. ولا ندري ماذا كانت النتيجة لو انهزم الفريق الوطني. * ولما كانت الفرحة عارمة، فقد اختار الكل أن يمجد الفريق الوطني، وتجنب الحديث عن بعض النقاط المحرجة. وأصبح الكل يتكلم عن الأخوة والمحبة والتضامن، وعن عبقرية اللاعب الجزائري ومروءته، بعد أن تحولت مقابلة في كرة القدم إلى حرب ضد مصر، بل تحولت إلى حرب من أجل الوجود. * وأبرز نقطة تفرض نفسها بعد هذه المقابلة تتمثل في الطلاق التام بين الفريق الوطني والبطولة الوطنية لكرة القدم. وباستثناء حارس المرمى ولاعب أو اثنين من حجم ثانوي، فإن كل لاعبي الفريق الوطني ينتمون إلى فرق محترفة أوربية، أين تمكنوا من اكتساب ثقافة المنافسة والمهنية وثقافة التنظيم التي فقدتها الجزائر منذ مدة طويلة. * وقد أصاب رابح سعدان في هذا الاختيار، حيث أن لاعبا متوسطا في أوربا يعطي مردودا أحسن من لاعب بارز في الجزائر، لأن المحيط والنظام الذي يلعب فيه يعلمه كيف يرفع مردوديته وكيف ينضبط في الميدان. وقد اكتشف رابح سعدان هذه الحقيقة منذ عهد طويل، لما كان في بداية مشواره كمدرب رفقة الروسي إفغيني روغوف بداية الثمانينات. وعاش سعدان خيبة أمل كبيرة بعد ذلك في نظام رياضي فاشل، لم يسمح له بمواصلة تجربته. ولما عاد هذه المرة فإنه لم يتردد في إقامة قطيعة شبه تامة مع البطولة الوطنية التي أصبحت لا تفتح أي مجال لمنافسة مقبولة. * وما يقوم به سعدان اليوم لا يشكل في الحقيقة سحرا فوق الميدان أو تطبيق خطة جديدة للعب، إنما انضم رابح سعدان إلى الفكر الذي فرض نفسه منذ سنوات طويلة في إفريقيا، والمتمثل في هذه الحقيقة البسيطة: إن البلدان الإفريقية فقيرة، وضعيفة من جانب المؤسسات الرياضية، فهي لا تستطيع أن تنتج رياضة من المستوى العالي إلا إذا اختار أبرز رياضييها التنقل إلى أوربا، مع احتفاظ البلدان الإفريقية بالحق في استعمالهم في الفرق الوطنية. ومن المعروف مثلا أن نيجيريا والكاميرون هما البلدان اللذان استطاعا أن يحافظا على مستوى مقبول خلال العشرين سنة الماضية، ونلاحظ أن الأغلبية الساحقة من لاعبي هذين الفريقين قد سافرا إلى أوربا للعب ضمن أنديتها. * هذا واقع لا مفر منه. إنها العولمة التي فرضت قواعد جديدة في التعامل الاقتصادي والرياضي. ويمكن أن ننتقده ونناضل ضده، لكن لا يمكن أن نتجاهله. ولا يمكن لبلد مثل الجزائر أو المغرب أو نيجيريا أن يحافظ على لاعب من مستوى الكامروني صاموال إيتو أو الإفواري ديديي دروغبا. فهؤلاء اللاعبون يربحون في أوربا ألف مرة ما يحصلون عليه في بلدانهم الأصلية. إضافة إلى ذلك، فإن مستواهم يتحسن لما يتحولون إلى أوربا، عكس زملائهم الذين يبقون في البلدان الإفريقية. * كيف التعامل مع هذا الواقع؟ لقد قطعت الاتحادية الدولية لكرة القدم خطوة مهمة لما وضعت برنامجا سنويا للمقابلات الدولية، وفرضت على كل الأندية أن يسمحوا للاعبيهم أن يشاركوا في مقابلات فرقهم الوطنية. ويبقى الآن أن يكتمل هذا المشوار بخيارات وقرارات على المستوى المحلي، من جانب الوزارة والفدرالية والأندية الجزائرية. * والمعروف أن الفرق الجزائرية ضعيفة، وأنها لا تعلم اللاعب روح المنافسة. عكس ذلك، فإن الفكر السائد يدفع إلى شراء المقابلات، والاحتيال على القانون، مما يعلم اللاعب كيف يبيع المقابلات ليربح أكثر ولو تم ذلك بطريقة معاكسة تماما للفكر الرياضي. وقد أدى هذا الفكر إلى تراجع شامل في مستوى المنافسة. * والظاهر أن هناك طريقة يمكن تجربتها، وهي تتمثل في التفاوض مع الأندية الأوربية الكبرى لدفعهم إلى التكفل بعدد من اللاعبين الجزائريين الشباب في مرحلة مبكرة من مشوارهم الرياضي. وإذا تم إيواء هؤلاء اللاعبين من طرف تلك الفرق، فذلك يضمن تكوينهم بأحسن طريقة وفي مناخ ملائم، في انتظار المهدي الذي سيقضي على الرشوة وبيع المقابلات في البطولة الجزائرية لكرة القدم. * ومهما يكن، فإن المدرب الوطني، مهما كان اسمه ومهما كانت عبقريته، سيبقى مضطرا إلى عزل الفريق الوطني عن البطولة الوطنية لمدة طويلة، لأن البطولة، مثل المنافسة السياسية والاقتصادية، فقدت كل القواعد التي صنعت الفرق الكبرى.