رحم الله كارل ماركس الذي كان يعزو كل تطور عبر التاريخ إلى العوامل الاقتصادية والتجارية. فقد بنى نظريته الشهيرة على أن البناء التحتي المتمثل بالاقتصاد وطريقة الحصول على الرزق هو الأساس للبناء الفوقي المتمثل بالعادات والتقاليد والثقافة. أي أن طريقة الكسب الاقتصادي هي التي تحدد في نهاية المطاف طبيعة العلاقات الاجتماعية والثقافات. * فمثلاً كانت العلاقات بين الناس مزدهرة وقوية جداً في المجتمعات التي تعتمد على الزراعة. لماذا؟ لأن العمل الزراعي يتطلب جهداً اجتماعياً مشتركاً، كأن يتشارك الناس في فلاحة الأرض، وزراعتها، وجني المحاصيل، وبذلك فإن طبيعة ذلك العمل تفرض على القائمين به أن يتواصلوا اجتماعياً بكثرة، أي على عكس المجتمع الصناعي الذي قام بتقسيم العمل، مما باعد بين الناس، وأثر على تواصلهم الاجتماعي، وأنتج بالتالي ثقافة انعزالية. وبما أن الغرب لا يقيم وزناً إلا للمال والكسب المادي، وبما أن الحياة الغربية في كل جوانبها، مرتبطة بالمال وتكديسه، فلا عجب أبداً أن يطل علينا الرئيس الفرنسي بهجومه العنيف على النساء اللواتي يرتدين الحجاب في بلاده، واعتبار النقاب رمزاً لإهانة المرأة وإذلالها. كيف؟ * طبعاً لا أريد هنا أن أبدو وكأنني طالباني الهوى، فمعاذ الله أن أؤيد بعض الطرق الساقطة التي تعامل بها بعض الجماعات والدول المتخلفة المرأة. لا بل إنني مع حرية الاختيار تماماً، ومع فتح كل المنافذ المغلقة في وجه النساء في عالمنا العربي البائس. لا بل إني استمتع كثيراً بمشاهدة برامج الأزياء على شاشات التلفزيون. لكن كل ما أريد تبيانه هنا هو أن الغرب لا يحترم المرأة، كما يزعم الرئيس الفرنسي، بل يستغلها أسوأ استغلال لأغراض تجارية بحتة لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالحرية والاحترام للجنس اللطيف. وأنا واثق من أن النظام الرأسمالي الذي لا يهمه سوى المال سيفعل المستحيل كي تبقى النساء الغربيات وغير الغربيات كاسيات عاريات. وهو ما لبث يشجع كل الثقافات على السفور والتعري، لكن ليس لأسباب عقائدية، بل لأسباب تجارية محضة. ولو انتشر النقاب في العالم الغربي لأصيبت الرأسمالية بكارثة ما بعدها كارثة، لهذا فليس من الغريب أبداً أن يتنطع رئيس غربي مثل ساركوزي ليدعو إلى إبقاء النساء الفرنسيات سافرات، ولأن يحذر كل من تفكر بارتداء النقاب بأن تبقى مكشوفة الرأس والصدر والساقين. * إن النظام الرأسمالي يقوم في أحد أسسه على صناعة الأزياء التي تدر عليه سنوياً مليارات الدولارات واليوروهات. ولو ارتدى خمسة بالمائة من السيدات الفرنسيات النقاب، فإن ذلك يعني خسارة بالملايين لدور الأزياء التي لا هم لها سوى التفنن في إظهار مفاتن النساء. فعندما ترتدي المرأة النقاب، فهذا يعني أنها لن تكدس عشرات الفساتين، والبلوزات، والبذلات، والكنزات، وكل ما تنتجه دور الأزياء من تصاميم جديدة في خزانة ملابسها، ولن تعيش حسب الموضة. وبالتالي فهي ستحرم دور الموضة من عشرات الملايين من الدولارات عندما تلتزم بارتداء النقاب الذي تصنعه شركات وطنية. * ولا داعي للتذكير بأن صناعة الأزياء تعتبر في بلد ساركوزي فرنسا عماداً رئيساً للاقتصاد الوطني. وبالتالي فإن انتشار موضة الحجاب في البلاد ستشكل تهديداً استراتيجياً واقتصادياً خطيراً للاقتصاد الفرنسي. * ناهيك عن أن شركات صناعة الإكسسوارات الشهيرة في الغرب من حقائب جلدية، وأحزمة، وأحذية ومجوهرات أيضاً ستصاب في مقتل عندما ترتدي النساء النقاب. صحيح أن كل السيدات يحملن حقائب جلدية، لكن ليس بالقدر الذي سيضطررن إليه عندما يكن سافرات، فمن المعروف أن الزي الإسلامي الأسود لا يسمح للسيدة مثلاً أن تحمل حقيبة مزركشة أو ملونة كتلك التي تتفنن بإنتاجها دور الأزياء الفرنسية. * وحدث ولا حرج عن صناعة مواد وأدوات التجميل. فعندما تقوم النسوة بتغطية الوجه والرأس، فهذا يعني أنهن لن يكن بحاجة إلى مساحيق التجميل الكثيرة من كريم أساس، وبودره، وكريمات التلوين، وأحمر الشفاه، ومواد تزيين العيون. صحيح هنا أيضاً أن معظم النساء يضعن المكياج على وجوههن، لكن الفرق شاسع جداً بين ما تضعه السيدة المنقبة وما تضعه السافرة. وبالتالي فإن حجم مبيعات شركات التجميل سينخفض بشكل كبير فيما لو انتشر النقاب في الغرب أو في أي مكان من العالم. * وعندما ينتشر النقاب في البلاد الغربية فهذا يعني أيضاً أن المنقبات لن يذهبن بعد اليوم إلى صالونات الشعر، لأنه لن تعود هناك حاجة لأن تهتم النسوة بشعورهن كثيراً لأنها ستكون مغطاة معظم الوقت. وبذلك لن يتأثر الكوافيرات العاملون في الصالونات فقط، بل كل الصناعة التي ترفد تلك الصالونات. وأقصد بذلك شركات ومصانع المواد المستخدمة في الصالونات مثل منتجات تثبيت الشعر "الفيكساتور"، والأصبغة، وأدوات تصفيف الشعر الكهربائية، وغيرها الكثير. وهذه شركات تحقق سنوياً أرباحاً مهولة في البلاد الغربية والعالم أجمع. وهذا يعني أن مئات الشركات التي تصنع أصبغة الشعر ستخسر كثيراً، ناهيك عن أن مئات محلات الكوافير ستتضرر أيضاً لأنه لن تكون النساء وقتها بحاجة لتصفيف شعورهن وتزيينها والتففن بقصاتها كما كن يفعلن وهن حاسرات الرؤوس. صحيح أن بعض السيدات المنقبات في العالم العربي يستخدمن كل ما تحتاجه عملية تزيين الشعر، لكن ليس بنفس القدر فيما لو كن حاسرات الرأس. * ناهيك عن أن ملايين المحجبات في العالم الإسلامي لا يزينّ شعورهن لأسباب اقتصادية بحتة. فهن غير قادرات على دفع نفقات التزيين من كهرباء وأصبغة وغيرها. وبذلك يكون ارتداء النقاب في هذه الحالة نعمة على هؤلاء النسوة الفقيرات، مما سيوفر عليهن ملايين الدولارات. لكن الدعاية الرأسمالية تريد حتى من النساء المعدمات في العالم أن يزيلوا النقاب كي تبيع شركاتهم ومصانعهم مزيداً من منتوجاتها. * لماذا يتجاهل ساركوزي وغيره أن ارتداء النقاب أحياناً هو حاجة اقتصادية، تماماً، كمان أن المطالبة بنزعه مدفوع أيضاً بعوامل اقتصادية ربحية مفضوحة. * وحتى تشجيع الجنس في العالم الغربي ليس نوعاً من الحرية الشخصية والاجتماعية، بل هو أيضاً نتيجة حتمية للبناء الاقتصادي التحتي. بعبارة أخرى، فبما أن النظام الرأسمالي يريد جني المال بأي طريقة كانت، فلا بأس أن يدفع الناس إلى السفور والتعري، لأن من شأن الحرية الجنسية المزعومة أن تدفع الفتيات والفتيان إلى شراء كل ما تتطلبه الحرية الجنسية من أزياء ومواد تجميل. ولو لم يكن هناك صراع محموم على إنتاج الأزياء لربما كانت الحرية الجنسية في الغرب أقل مما هي عليه بكثير. فهناك ارتباط وثيق بين الاقتصاد(البناء التحتي) والثقافة الجنسية الفالتة من عقالها( البناء الفوقي). * لم يبق أن نقول للغاضبين من تصريحات ساركوزي حول النقاب: لو عُرف السبب لبطل العجب.