رشا الأمير نقلت دار "اكت سود" مؤخرا رواية "يوم الدين" مترجمة إلى الفرنسية بعد 7 سنوات من صدورها في بيروت و5 سنوات عن الطبعة الجزائرية وكانت الرواية عندما صدرت أحدثت نقاشا صامتا في أوساط بعض المثقفين. *
* لأنها بدت "رواية شيطانية ليس فقط لجرأتها ولكن أيضا لطريقة كتابتها ولغتها فهي رواية تستدعي من القارئ أن يضع جانبا كل القراءات التي تعوّد عليها، وأن يبذل مزيدا من المجهود الفكري واللغوي لفهم والتفاعل مع الرواية التي كانت الأولى في مسار صاحبتها الناشرة رشا الأمير التي تعود في حوارها مع الشروق لبعض أجواء الرواية وبعض ما اتصل بها من قضايا. * * اكتشفك القارئ الجزائري من خلال روايتك "يوم الدين" التي صدرت في طبعة جزائرية. هذه الرواية التي أثارت الكثير من النقاش لجرأتها ولغتها وموضوعها. هل توقعت رشا الأمير ما أثارته من ردود فعل؟ * استُقبلت "يوم الدين"، بطبعتيها اللبنانيتين( عن دار الجديد)، وطبعتها المصريّة (عن دار ميريت) وطبعتها الجزائريّة (عن دار آنيب)، بحفاوة صامتة. فالكلام حولها لم يدر جهاراً بل همساً. الصّمت المجلجل قرين الصّخب والفضيحة، لا بل إنّه أخو الإلغاء ولربما المحق. * اعتبر النّقاد الأدبيون أنّ الموضوع يتجاوزهم، فصاروا يشيعون أن "يوم الدين" كتاب لغة ليس إلا، خافوا من موضوعه وقرروا تغييب الكتاب رمزياً. أمّا القادرون فعلاً على نقاشه من رجال دين وسياسة فهم غير معتادين على قراءة الرّوايات، فتجلببوا أيضاً بالإنكار. صمت كثيف حاق بصدور "يوم الدين"، صمت ترافق مع قراءة لا صلة لها بالعلانية. وهذه القراءة المهرّبة هي قرينة ما نعيشه في عالمنا العربي الإسلامي. فالظاهر يستر غابات من البواطن. * استُقبل "يوم الدين" وكأنّه يوم سرّ وكظم، وصار يقرأ وكأنه كتاب ملعون سمح به، شريطة أن يستوطن الهامش وأن يؤرّق الضمائر. * * الرواية تركز في جزئها الكبير على التراث كلغة وكفكر، ما رأيك في من يعتبر أن أكبر أسباب تخلف العرب هو عودتهم إلى التراث وتمسكهم بالماضي؟ * بطل الرّواية إمام تفوّق في درس الفقه واللغة. وبطلة الرّواية، حبيبته، سيّدة جامعيّة تعمل في مؤسسة ثقافية وتحلم بفهرسة عوالم أحمد المتنبي. أي أن البطلين التقيا على أرضيّة فكرية وثقافية تجمع بيننا كلّنا من حيث المبدأ، نحن القاطنين تحت هذه السّماوات. ليس التراث بدخيل على حياتنا، إنّه مقيم معنا ليل نهار، أأذّن مؤّذن أم استشهدنا ببيت شعر. ثقافتنا لليوم يهدهدها طيفان: النبي الناطق بكلام منزّل، والشاعر القادر على اجتراح كلام بشري. ليس التراث بمسؤول عمّ آلت إليه أوضاعنا. ومن السّهل إطلاق النّار على جثث. لقد صيّرنا إرثنا الفكري والأدبي، صيّرناه جثّة واعتبرنا أنفسنا ضحيّة هذا الكائن الأسطوري، نصوصنا القديمة تنادينا ليل نهار، فلماذا لا ننكبّ عليها قراءة وتفنيداً؟ لم لا نستنبط منها عبراً للحاضر والآتي، بدل أن نسدد لها أصابع الإتهام. لو شرعنا نقرأ لاختلفت أسئلتنا وتبدّل معجمنا وتصالحنا مع أجداد لنا لا يتحمّلون وحدهم وزر ما نحن فيه من استنقاع. * * في الوقت الذي يصف فيه عديد من النقاد عصرنا بعصر السرعة فضّلت رشا الأمير الكتابة بلغة المتنبي. هل كان هذا اختياراً شخصياً أم ضرورة أملاها موضوع الرواية؟. * المتنبي واحد من جلسائي، بيد أنني أتسامر مع كثيرين غيره. لغة يوم الدين ليست إطلاقاً لغة القرن العاشر. إنّها لي لغة بطلي ولغتي، كما أطمح لها أن تعيش وتزدهر اليوم في أوائل القرن الحادي والعشرين. عيشي في عصر الحواسيب النّقالة والهواتف الذكيّة لا يمنعني من مطالبة الأدب، أي أدب، والموسيقى أيّة موسيقى، والنّاس كل النّاس، من مشاطرتي قيمي الجماليّة والأخلاقيّة، السّرعة لا تخيفني بيد أنّني أعرف أني اخترت العزف على أوتار لغتنا الراقيّة على إيقاع كلاسيكي، الكاتب يحترم تفاصيل لغته، يحترم همزاتها وشدّاتها * وحركاتها وقواعدها، وهذا ما حاولته في كل الكتب التي أشرفت على نشرها وفي الكتب التي أكتبها. * * في الرواية قصة حب بين شيخ، إمام جامع، وامراة مثقفة؛ وبرغم ثقافة المرأة الكبيرة، لكنها ظلت مجرد تابع في الأحداث. هل هو توصيف لواقع المرأة أم تنديد به؟ * بطلة روايتي هي البطلة الفعليّة. هي التي أخرجت حبيبها الإمام من العتمة إلى الضوء، وهي التي أنقذته في نهاية الكتاب وأمّنت له تأشيرة السّفر كي يلتحق بها، حيث هاجرت، تبدو لي نساء حياتي أصلب وأشجع من رجالها وإعجابي بهنّ يكبر يوماً بعد يوم. يتزوّجن وينجبن ويدرن بيوتهنّ ويعملن ويتعاضدن. إنهنّ يعطين صورة بهيّة عن الإنسان، كما أطمح له أن يكون، ليت الشجاعات المقدمات يؤثّرن على رجال القرار فتصير بلادنا أرحب. * * في عملك مشاهد جنسية موصوفة بصراحة، ما رأيك في من يتهم الرواية النسوية باللعب على وتر الجنس لتحقيق الانتشار؟ * الصفحات الجنسيّة في "يوم الدين" هي من سياق الكتاب ولا علاقة لها بالإثارة السّوقية، وهي حسب قول أحد النّقاد المرموقين تصل بالكتابة الإيروسيّة العربية إلى مستوى أدبي فذ. * الكتابة عن الجنس جسد وروح، هذا ما تبيّنه نصوص لا تفنى كنشيد الإنشاد مثلاً. * أشارت الرواية من جهة أخرى أيضاً إلى ما يعرف بالحركات الإسلامية أو التيارات المتشددة برأيك. هل كانت هذه التيارات التي تدّعي الاستلهام من التراث نتاج سوء قراءة وفهم هذا التراث؟ * لا أظنّ أن ما أخذته الرّواية على أعداء الشيخ من داخل جامعه وملّته هو قراءتهم أو فهمهم للتراث. هناك برأيي قراءات كثيرة لدور الدين في المجتمعات. لقد أعاد صعود الإسلام في كافة المجتمعات طرح مواضيع سعت، حتى الدول الصريحة المستقرة والمجاهرة بليبرلياتها، إلى طمسها، لقد تابعت بلا ريب مشكلة الحجاب في فرنسا العلمانيّة، ومشكلة المهاجرين الشباب، وانخراطهم في المجتمع الفرنسي. في فصل من فصول "يوم الدين". يتحدّث الإمام بجرأة عن فصل الجامع عن الجامعة والدين عن الدّولة، بسبب مواقفه الشجاعة هذه سيُفتى بهدر دمه. * قلت يوماً "إنك ناشرة ومهنتك الغواية" ألا تخشين، رشا الأمير، من هجوم التيارات المتشددة؟ وما هي حدود الغواية التي قد يذهب إليها نصك؟ * لست أذكر متى وأين قلت هذه الجملة، لعلّه عنوان مثير اختاره صحافيّ كي يلفت النّظر إلى مقاله. أعرف أنني في كل ما عملته ومن خلال الكتب التي صدرت عن الدار التي أدير، دار الجديد، حاولنا أن نقدّم للقارئ والقارئة ما قد يستطيبه وتستطيبه من فكر وأدب، سعت "بضائعنا" إلى مخاطبة الذكاء والأريحيّة. اجتهدنا كي تصل كتبنا إلى النّاس خالية من الأخطاء، جذّابة بأغلفتها ومضامينها، الكتاب وأهله في الحضيض كما تعرفين، وهو لا يستطيع منافسة التلفزيون والهاتف والحاسوب. الكتاب سلعة مستضعفة، وهي بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى أن يرّد لها الإعتبار، وتجمّل حتى تصير مغرية وجذّّابة. * الحرب اللبنانية تركت الكثير من الجروح سياسياً اقتصادياً وثقافياً. لكن الأعمال الأدبية لم تواكبها بما فيه الكفاية. هل فكرت رشا الأمير في كتابة عمل عن الحرب؟ * كتب الكثير عن الحرب: دراسات وتحليلات وروايات وقصائد. الحرب مستوطنة وعميمة في بلادنا. الحرب حروب في منطقتنا. حروب ضد المستعمر وحروب ضد إسرائيل وحروب أهليّة وحروب باردة. الحرب ماؤنا وسماؤنا للأسف، ولا أريد أن أصدّق أنّها أيضاً أفقنا الوحيد. * في يوم الدين حديث عن حرب أهليّة وعن سيارات مفخخة. الحرب حاضرة في طيّات أرواحنا ولو بشكل موارب، الكتابة هي ترياق الحروب وقد اصطفى الجمهور العربي الشّعر كي يلعب هذا الدور بواسطة من هما في الحقيقة شقيقا روح نزار قبّاني ومحمود درويش، قرأ الثاني في كتاب الأول ثم تجاوزه بدراميّة تجربته الفلسطينيّة والشخصيّة. * * يوم الدين نقلت مترجمة إلى الفرنسية. كيف استقبلت الترجمة في الشارع الفرنسي؟ وهل أرضتك الترجمة بالنظر إلى نصك الأصلي؟ * لولا نخوة يوسف الصديق لما رأت روايتي يوم الدين النّور بلغة فولتير، يوسف الصديق أكاديمي تونسي متذوّق للأدب ودارس في مضامير الفقه والفلسفة، يعيش منذ سنوات في فرنسا، له تدين المكتبة الفرنسية بمجموعة من المؤلّفات والترجمات، يدور أغلبها في فلك الإسلام والتراث. ما إن قرأ يوسف الصديق الرواية حتى عزم على ترجمتها وعلى إقناع دار نشر فرنسية بضرورة نشرها. ولمّا كان فاروق مردم بك المسؤول عن سندباد، السلسلة العربية التركية والفارسية في آكت سود مرحّباً، بدأت رحلة الترجمة الطويلة والمضنية، تعب يوسف الصديق ومساعده وهما يعملان على نقل يوم الدين من العربية إلى الفرنسية، كما تعب فريق دار النشر لما بدأت عمليات التدقيق والتصحيح. * خلال فترة العمل التي توزّعت على سنوات، دبّ اليأس أحياناً في أواصرنا جميعاً. "هذا كتاب عصيّ عن الترجمة"، هذا ما قاله لي الأصدقاء مراراً وتكراراً. "هذا كتاب سيفقد فصاحته إن هو نقل إلى لغة أخرى". سمعت تعليقات كثيرة، بيد أن قرّاء الفرنسيّة راضون على ما يبدو، لا بل إنني أسمعهم يثنون على الترجمة التي لا تشبه، بالطبع الأصل. * كل الذين عملوا بدأب كي يصل المشروع إلى تمامه يستحقّون جائزة في الترجمة والمثابرة والعمل المتقن. * * يتهم النقاد عادة النصوص التي تكتبها النساء بالبقاء في دائرة الحريم الثقافي. برأيك لماذا لم تتخلص بعد المرأة من تهمة الانكفاء على شؤونها الذاتية؟ * امتدح عبدو وازن في مقالة نشرت أخيراً فحولة كاتبة يوم الدين. ولّى زمن النساء المنكفئات على قصصهن الصغيرة. يوم الدين رواية دين بأكمله وليست رواية امرأة تُخرج رجلاً من العتمة إلى النّور، المرأة العربية هي الخميرة الفعليّة لهذا المجتمع المأزوم، بعض النساء المتفوّقات يبززن الرجال علماً ورقّة وفحولة، النساء المتفوّقات يعلمننا، كلّ يوم، أن نعيد اكتساب ما تحاول الدّهماء أن تخلعه عنّا من إنسانية ورهافة. الحق أنّ في كل رجل أحب نخوة وعطاء أنثويين.