كل عام نحتفل بذكرى أول نوفمبر 1954، ولا أحد تساءل: ما الذي نحتفل به؟ هل هو رحيل قادة ومجاهدي الثورة، أم طيّ ملف الاستعمار الفرنسي، أم نحتفل بشيءآخر يسميه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر "الآخرون هم الجحيم"؟ * تحريك السواكن ! * * هناك اعتقاد عندي، ربما لا يشاطرني فيه الكثير، وهو أن مشكلة الجزائر أنها لم تتحرر حتى الآن من فرنسا، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي أو الإعلامي وحتى على مستوى المنظومة التربوية، فإذا أخذنا نموذجا اللغة فعلينا بأن نتذكر مقولة جان جاك روسو "كل لغة لا يمكننا أن نبلغ بها صوتنا إلى الجمهور المتجمع هي لغة عبودية، ولا يمكن لأي شعب أن يظل حرا وهو يتكلم تلك اللغة"، وما دام النظام الجزائري لم يتحرر من اللغة الفرنسية، وما دامت الفرنسية هي اللغة الرسمية الفعلية على مستوى الإدارة والحكومة والإعلام والدبلوماسية والاقتصاد والثقافة وحتى التجارة، فإنه من الصعب الحديث عن "مستقبل الجزائر" والدليل هي "الفضيحة - الشخصية) في حوار "الجزيرة" مع رئيس الحكومة الأسبق عبد ا لحميد إبراهيمي، وتصريحات معظم وزرائنا في الجزائر للصحافة الجزائرية. * إذا كان ابن حزم يرى أن "قوة اللغة في قوة أهلها" وابن خلدون يعتقد أن "غلبة اللغة بغلبة أهلها" فهل الانتصار للفرنسية يأتي من "قوة فرنسا أم من ضعف النظام الجزائري" ؟ الفكر الماركسي الذي كانت تتبناه بعض الأحزاب اليسارية في الجزائر كان يحمل الفكر التحرري في العالم إلا في الجزائر، فهو ضد التحرر، وفرنسا التي تخصص أكثر من مليار أورو لنشر ثقافتها في الجزائر وأقطار المغرب العربي، لم يستفد من هذا المليار إلا الأشقاء دول الجوار، أما الجزائر فهي تدفع من خزينة الشعب لخدمة الفرنسية وثقافتها. ويكفي أن أحد مسؤولي المدارس العليا التي أنشئت مؤخرا في الجزائر، سئل في إذاعة جزائرية عن اللغة التي سيستعملها للتدريس فقال: "العربية والفرنسية" والمبرر أن مجالات الصحافة والسياسة والتجارة في الجزائر هي "الفرنسية" متناسيا أن لغة المستقبل هي الإنجليزية. لأن صحفنا باللغة الفرنسية تحتاج إلى خريجي الجامعات، وخريجو الجامعات في حاجة إلى وظيفة فلماذا لا نفتح لهم (الماستر 1) و(الماستر 2) في المجالات السالفة الذكر. يقول هيجل "إننا لا نفكر إلا داخل الكلمات" فهل من يريدون تطوير المنظومة التربوية يفكرون داخل اللغة العربية أم " لغة الأم فرنسا". * مئات المتفوقين في الجامعات الأمريكية والإنجليزية لا يجدون مكانة لهم في الجامعات الجزائرية، بينما من يفشل في فرنسا ثقافيا واقتصاديا وسياسيا يلجأ إلى الجزائر، فالجزائر ما تزال "منقذة لفرنسا" من الأزمة العالمية، وفرنسا تريد تكريس عملية "تقديس الاستعمار" لدى أبنائها في الجزائروفرنسا. ولأن البرلمان الجزائري آخر السواكن التي تحرك بالمهماز ها هو يبحث عن صيغة "لإدانة الاستعمار" ولكنه في حاجة إلى جهة "رسمية تدعمه" لأن هناك منطقا غريبا في الجزائر. * * نهاية المنطق بداية التحليل! * * وهذا المنطق هو "اللا منطق" فحيث ينتهي المنطق يمكن لك أن تتحدث عن الجزائر. في مصر، التي تطاول إعلامها الرياضي على الشعب، نجد فيها السياسة متوازنة فالوزير يستقيل أما نحن فإن جميع المسؤولين في الوزارة قد يحالون على العدالة ولا يجرؤ الوزير على الاستقالة. ربما لو نتحدث عما وقع من مصائب وكوارث في الجزائر، بسبب إهمال الوزراء، سنجد أسماء تمت ترقيتها. ويفترض أن يتقرب الوزير من النائب لكن العكس هو الصحيح، بل إن بعض الولاة لا يستقبلون نواب الأمة. * وفي الوقت الذي بدأت قيادات الثورة في "الانقراض" نفاجأ بارتفاع عدد المجاهدين المزيفين. * لا أفهم كيف نحتفل بعيد الثورة دون أن نعيد الاعتبار لقادتها. * لو كانت منظمات أبناء الشهداء وأبناء المجاهدين والمجاهدين ووزارة المجاهدين والمتقاعدين إرادة حقيقية، كأسرة ثورية، في الحفاظ على الثورة، وزرعها في أبناء الجيل الصاعد لتحركوا لجمع تراث الثورة وشهادات الأحياء من قادتها وتوفيرها في الأسواق، عوض الحديث عنها في وسائل الإعلام وتسويق أنفسهم باستغلالها. * ثورة عظيمة مثل ثورة أول نوفمبر تمنع فيها مذكرات العقيد بن طوبال، ومذكرات كافي، ومذكرات الشاذلي بن جديد، وحتى المذكرات التي لم يحن الوقت للإشارة إلى أصحابها، أيعقل ألا يفتح التلفزيون الجزائري أبوابه على رجال الثورة الأحياء ويعود إلى الشهداء حتى يحتفل بهذه الذكرى المجيدة. * أيعقل أن الولاة يحتفلون بعودة بقايا "الأقدام السوداء" إلى الجزائر، ويدعونهم -وهم فقراء- إلى الاستثمار في الجزائر، في حين يهان المجاهدون في مناطقهم، ومن يتتبع رسائل القراء في الصحافة الوطنية أو يطلع على التقارير المقدمة إلى مديرية الأمن حول تجاوزات بعض محافظات الشرطة في حقهم، يدرك مدى الإساءة إلى التاريخ، وربما تتاح لي فرصة نشر بعض الوثائق التي اطلعت عليها. * * أي مستقبل لجيل دون مستقبل؟ * * ومن الصعب أن أتحدث عن ذكرى أول نوفمبر دون الحديث عن جيل الاستقلال، فأبناء المسؤولين في (نادي الصنوبر وموريتي) وبعض الأحياء الفاخرة يدمجون، وهم طلبة، في المؤسسات كموظفين، في حين أن حملة الشهادات تغلق في وجوههم الأبواب. * من السابق لأوانه الحديث عن نوفمبر كذكرى دون التساؤل: ماذا استفاد حزب فرنسا وضباطها منها سوى الإهانة والاستخفاف بهم. صحيح أن فرنسا فتحت باب منح الجنسية ولكن لو يدرك المواطنون أن الملفات المقدمة لنيل الجنسية هي ليست ممن لهم أفراد في الثورة أو ممن ينتمون إلى الأسرة الثورية، بل إن فرنسا تقدم الإغراءات، وبالمقابل تكرس الاستعمار، ولكنها لا تستطيع محو جرائمها في الجزائر لسبب بسيط هو أن الجزائر أكبر ممن يريدون تحجيمها لصالحهم، أو استخدامها لتحقيق تطلعاتهم. * وإذا أردنا أن نحتفل بأول نوفمبر فعلينا أن نتذكر دائما أن حريتنا هي في تحررنا من فرنسا في أبعادها الاقتصادية والثقافية والتربوية والسياسية، وأن نقول لها "لا" في حضرة "الآخر".