أحداث شهدتها الأيام الأربعة الأخيرة، كشفت أن العلاقات الجزائرية الفرنسية، أكبر بكثير من أن تتضرر من إلغاء الجزائر لزيارة رسمية كان مرتقبا أن يقوم بها وزير خارجية باريس، برنار كوشنير، خلال الشهر الجاري، وبينت أن ما يحدث من حين إلى آخر على محور الجزائرفرنسا لا يعدو أن يكون مجرد سحابة صيف عابرة، رغم ثقل الملفات العالقة. * ففي الوقت الذي أكد فيه وزير الشؤون الخارجية مراد مدلسي، عن تأجيل برنار كوشنير لزيارة الجزائر التي كانت مقررة الشهر الحالي، راسما صورة سوداوية حول العلاقات الثنائية، جاءت يومية "لوفيغارو" المعروفة بقربها من اليمين الحاكم بزعامة الرئيس نيكولا ساركوزي، لتؤكد أن الزيارة ألغيت ولم تؤجل، بعد أن رفض الطرف الجزائري استقبال رئيس الدبلوماسية الفرنسية، على خلفية عدد من الملفات في مقدمتها فرض باريس تدابير رقابية إضافية على المسافرين الجزائريين، لتضاف إلى ثقل الماضي الاستعماري. * وبينما راح أفضل المتفائلين من المتتبعين للعلاقات الجزائرية الفرنسية، يرسمون لوحة سوداوية حول مستقبل العلاقات الثنائية، تفاجأ الجميع باتجاه العلاقات الاقتصادية بين الجزائر وباريس، نحو التوطيد، بالرغم من التداخل المعهود بين كل ما هو سياسي واقتصادي، إلى درجة أن بعض المتتبعين عبروا عن تفاجئهم من الطابع الاستثنائي الذي يتحكم في ترموميتر العلاقة بين الجزائر ومستعمرتها السابقة. * ففي ظل هذا التوتر السياسي وقعت كل من سوناطراك وسونلغاز، على عقود مع ثلاثة مجمعات فرنسية قدرت قيمتها بملايير الدولارات، وهو أمر كشف عن خصوصية قد لا تميز سوى العلاقات بين الجزائر وباريس، مفادها أن السياسة ليست بالضرورة تتحكم في الاقتصاد، أو على الأقل، هذا ما تم استخلاصه، من الاتفاقيات المذكورة. * فسوناطراك، وفي ذات اليوم الذي خرج فيه وزير الطاقة ليوضح موقف الوزارة من الفضائح التي طالت عددا من إطاراتها، وقع مديرها الجديد بالنيابة، عبد الحفيظ فغولي، وبحضور وزير الطاقة شكيب خليل، على عقدين لاستكشاف النفط بجنوب البلاد، الأول مع العملاق "غاز دو فرانس"، فيما كان العقد الثاني مع المجمع الفرنسي "توتال"، بقيمة إجمالية تفوق الثلاثة ملايير دولار في المجموع مع احتمال ارتفاعها، حسب ما جاء على لسان الأمين العام لسوناطراك. * يوما بعد ذلك، تمكن مجمع فرنسي آخر من الفوز بصفقة جديدة في الجزائر، مع ثاني أكبر مؤسسة في البلاد، ممثلة في شركة سونلغاز، ويتعلق الأمر بالمجمع "فرنيي"، الذي ظفر بعقد إنجاز أول محطة لإنتاج الطاقة من الرياح بقيمة 417.3 مليون دولار، على حساب المجمع الألماني "مان فيروستال"، وأمام أنظار وزير الطاقة والمناجم شكيب خليل. * وإذا كان قرار إلغاء زيارة كوشنير يعبر عن عمق امتعاض الطرف الجزائري من طبيعة تعاطي باريس مع عدد من المطالب، يأتي في مقدمتها تمادي السلطات الفرنسية في الهروب إلى الأمام، بشأن جرائم الماضي الاستعماري، ومشروع حكومة فرانسوا فييون، المتعلق بالهجرة والهوية، وهو المشروع الذي لقي استهجانا من حكومات الدول التي لها جاليات بفرنسا، يضاف إلى ذلك القرار الذي فاجأ السلطات الجزائرية، والمتمثل في فرض رقابة استثنائية على المسافرين الجزائريين في المطارات الفرنسية، لا تختلف عن تلك التي فرضت على رعايا دول تعاني من الظاهرة الإرهابية. * وحتى وإن لم تؤكد الحكومة الفرنسية خبر إلغاء زيارة كوشنير، عندما علقت على الأمر قائلة بأن الأمر لا يتعدى أقوال صحف، إلا أن تأكيد مراد مدلسي للإذاعة الوطنية على الأقل بتأجيل هذه الزيارة، يؤكد أن غيوما تلبد سماء العلاقات الثنائية، وأن للجزائر مؤاخذات على الطرف الفرنسي، ومطالب ينبغي التعاطي معها بإيجابية، غير أن الاحتجاج بإلغاء زيارة رسمية، لا يمكن أن يؤتى أكله إذا لم توظف الجزائر أوراق الضغط الناجحة، مثل ورقة النفط والغاز، التي تبقى أفضل عصا يمكن أن ترفعها الجزائر في وجه باريس لحملها على إعادة الحق المهضوم لأصحابه.