في مثل هذه الأيام منذ ثلاثين سنة غيّب القدر وجها كريما، وشخصا عظيما من وجوه العرب وعظمائهم، الذين آمنوا بوحدة هذه الأمة التي زكا أصلها، ونما فرعها، وعملوا بكل ما أوتوا من قوة لكي تعود سيرتهاالأولى عزيزة الجانب، كريمة الحياة، وأعني بهذا الوجه الأصيل المناضل الفلسطيني أحمد الشقيري، رحمه الله، الذي لا يعرفه أبناء هذا الجيل من العرب، لأنهم أريد لهم أن يجهلوا أمثال هذا الرجل، ويقدّم لهم أناس "ليس لهم في المكرمات جلّ ولا قلّ". * ولد أحمد الشقيري في سنة 1908 في قلعة تبنين بلبنان من أب فلسطيني، وأم تركية لم يؤدم بينهما فافترقا، فتزوّجها عمه سليم الذي كان مقيما في طولكرم بفلسطين، ولكن أمه لم تمتد أيامها، فتوفاها الله في سنة 1915، فاضطر أحمد أن يلتحق ببيت أبيه في مدينة عكّا، التي تعلم فيها المرحلة الابتدائية. * في تلك الأثناء وهو لما يبلغ الحلم تناهى إلى سمعه ما كان يتداوله الكبار من حديث عن ذلك الوعد المشؤوم، الذي تولّى كبره المجرم اللورد بلفور، الذي تعهّد فيه باسم بريطانيا بإنشاء "وطن" في فلسطين ل "جراد أوربا"، ثم لم ينشب أن رأى الجيوش الإنجليزية وهي تحتل فلسطين في سنة 1917 بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، التي كان من عواقبهاالمباشرة على عائلة الشقيري أن طردت من بيتها في عكا بدعوى موالاة والده لتركيا، وقد اتخذ ضباط الإنجليز ذلك البيت مسكنا لهم، ومن الأمور التي انطبعت في ذهن الفتى أحمد آنذاك تدفق آلاف اليهود على فلسطين تحت حماية البغاة الإنجليز، الذين "هم أوّل الشرّ ووسطه وآخره منهم يبتدي وإليهم ينتهي"، كما يقول الإمام الإبراهيمي. * أتمّ أحمد الشقيري دراسته الثانوية في القدس، ثم التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت، فانغمس في النشاط الطلابي، مما أدّى إلى طرده من الجامعة، ثم من لبنان لقيادته مظاهرة طلابية ضد الوجود الفرنسي في الشام، وكان ذلك في سنة 1927. * رجع أحمد إلى فلسطين، والتحق بمعهد الحقوق، وكان في الوقت نفسه يعمل في جريدة "مرآة الشرق" وكان أول مقال له تحت عنوان: "تقدّم أيهاالشاب واطرد أباك"، احتجاجا على الزعامات الفلسطينية، التي كانت منشغلة بالكيد لبعضها، لاهية عن الخطر الصهيوني، الذي سيأتي عليها كلها. * تحمس الشاب أحمد الشقيري للثورة الفلسطينية الكبرى التي اندلعت في عام 1936، وكان إسهامه فيها هو الدفاع عن الثوار الذين قبضت عليهم السلطات الإنجليزية، فعلم أن هذه السلطات تتربّص به، فلجأ إلى مصر إلى سنة 1940، حيث عاد إلى فلسطين بسبب وفاة والده، وفتح مكتبا خاصا به للمحاماة. * أسّست جامعة الدول العربية، وتقرر تأسيس مكاتب تابعة لها في بعض العواصم، للتعريف بالقضايا العربية والدعاية لها، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وعُيّن أحمد الشقيري مديرا لمكتب الإعلام العربي في واشنطن، ثم أعيد للمهمة نفسها في مكتب الإعلام العربي المركزي في القدس، الذي استمر فيه حتى وقعت الجريمة الكبرى في 1948 بتأسيس الكيان الصهيوني الهجين، بدعم مباشر من أكابر مجرمي العصر الحديث بريطانيا، أمريكا، فرنسا، الاتحاد السوفياتي.. فأصبح الشقيري من اللاجئين مثل مئات الآلاتف من الفلسطينين.. وراح يضاعف نشاطه في سبيل قضية بلده من خلال ما أسند إليه من مهام في بعض الدول العربية أو في جامعة الدول العربية التي عُيّن فيها أمينا مساعدا من عام1951 إلى 1956، ويدعو إلى الإعداد الجيد لاستعادة الكرامة المغصوبة، واسترجاع الأرض المسلوبة، لأنه كان يؤمن "أن القانون الدولي لن ينقذ فلسطين". * في خريف 1951 حضر الشقيري دورة الأممالمتحدة التي عقدت في باريس نائبا لرئيس الوفد السوري فارس الخوري، وكان الإمام محمد البشير الإبراهيمي قد ذهب إلى باريس لكي يتصل بوفود الدول العربية والإسلامية، ويطلب منها طرح القضية الجزائرية، فكان ممن تعرف إليهم وأعجب بهم، وأعجبوا به فاضل الجمالي (العراق)، فارس الخوري (سوريا)، صلاح الدين باشا (مصر)، عبد الرحمن عزام (أمين عام جامعة الدول العربية)، أحمد الشقيري (نائب رئيس الوفد السوري). * لقد احتفظ الإمام الإبراهيمي للشقيري منذ ذلك اللقاء بصورة حسنة من حيث معارفه الواسعة، وعواطفه الصادقة، وقدرته على العمل، وقد ازداد الإمام تأكُدا من هذه الجوانب في الشقيري بعدما سافر إلى المشرق في ربيع عام 1952، للدعاية للقضية الجزائرية، ولهذا عندما أذن ربّك بإعلان الجهاد في الجزائر في عام 1954، ووقفت الدول العربية إلى جانب الشعب الجزائري في جهاده، وكان في مقدمة تلك الدول المملكة العربية السعودية التي كانت أول دولة "تكلفت بعرض قضية الجزائر في هيئة الأممالمتحدة"(1)، بعث الإمام الإبراهيمي رسالة إلى الملك سعود جاء فيها "اسمحوا لنا.. يا صاحب الجلالة أن نلفت نظر جلالتكم إلى أن من بين رجالات العرب رجلين متخصصين في الإلمام التام بشؤون الجزائر من جميع نواحيها، مع الإخلاص والغيرة والجراءة، ومع الصدق في خدمة جلالتكم وهما الأستاذ أحمد بك الشقيري، والأستاذ عبد الرحمن عزام باشا، فإذا وافق نظركم السامي على أن تكلفوهما أو أحدهما بالاستعداد من الآن لمتابعة قضايا الجزائر والدفاع عنها باسم جلالتكم كعون وتعزيز لسفارتكم بواشطن، إن رأيتم هذا ووافقتم عليه كنتم قد وضعتم القضية في يد محام بارع، عالم بأدلتها وبراهينها، محيط بجزئياتها وكلياتها، ولكم النظر الحالي في تفاصيل الموضوع وكيفياته"(2). * وقد استجاب الملك سعود لاقتراح الإمام الإبراهيمي، وعيّن أحمد الشقيري ممثلا لمملكة السعودية في الأممالمتحدة، حيث جادل عن قضية الجزائر وقضايا العرب جدالا حارا، حتى قال الرئيس الأمريكي أيزنهاور في مؤتمر صحافي: "إن الشقيري لا يمثل المملكة العربية السعودية!؟" (3) * لقد ألقى أحمد الشقيقي من على منبر الأممالمتحدة خطبا رائعة من حيث القوة المنطقية والبلاغية، وفي أول خطاب ألقاه دفاعا عن الجزائر نبّه إلى "أن الجزائر لا تكافح لتنال استقلالها، ولكنها تكافح لتستر وتستعيد استقلالا انتزع منها، إن الجزائر لا تكافح لتبني دولة جديدة؛ ولكنها تكافح لتسترد وتستعيد دولتها التي كانت قائمة في زمن لم يكن فيه عدد من الدول المعاصرة قائمة أو موجودة"(4)، وعندما زعم وزير خارجية فرنسا أن للثورة الجزاذرية صلة بالشيوعية لينفض عنها الشعب الجزائري والشعوب الإسلامية، ردّ عليه الشقيري قائلا: "إذا كان شيء من هذا موجودا في الجزائر فإني لا أرى داعيا لأن يتسرب القلق إلى المَسْيُو بِينُو، ذلك أن الشيوعية لها وجودها وأثرها في المجتمع الإفرنسي.."(5). وعن العون الذي تتلقاه الجزائر من الدول الشقيقة والصديقة واحتجاج فرنسا على ذلك، قال الشقيري: "إن فرنسا التي تشكو الآن من العون الخارجي الذي يُقدّم للجزائريين كان لها شأن مع العون الخارجي، لقد قدّمت عونا، وقد تلقت عونا"(6). ومن أروع ما قاله أحمد الشقيري: "الرئيس ديغول خيب آمالنا في الجنرال ديغول". وعندما أجبر الشعب الجزائري ومجاهدوه الجنرال دوغول على الاعتراف بحق الشعب الجزائري، لم يرَ الشقيري في ذلك فضلا لديغول على الجزائر، بل خطب يقول: "الجنرال ديجول حرّر فرنسا مرتين.. في المرة الأولى استطاع أن يحرر فرنسا من النازية، وفي المرة الثانية كان للرئيس ديجول دور كبير في تحرير فرنسا من الاستعمار"(7). * لقد كتب القدر أن يكون أحمد الشقيري هو أول رئيس لمنظمة الفلسطنينة، ومن أهم ما أنجزه في الفترة القصيرة التي رأس فيها المنظمة تكوين جيش التحرير الفلسطين، وقد عانى من إخوانه أكثر مما عانى من أعدائه، مما جعله يردد: "إنني قضيت أيامي وأعوامي في منظمة التحرير وفي عنقي ثلاثة عشر حبلا يمسكها ثلاثة عشر ملكا ورئيسا"(8). * استقال الشقيري من رئاسة المنظمة في ديسمبر 1967، واستقر في القاهرة التي غادرها بعدما فعل السادات فعلته بالتنكر لأمته وموالاته لأعدائها، واستقر فترة في تونس إلى أن اشتدت عليه وطأة المرض، فنُقل إلى عمّان بالأردن، حيث أتاه اليقين في 25 فبراير من سنة 1980، وقد أوصى أن يدفن في مقبرة الصحابي الجليل أبي عبيدة عامر بن الجراح في غور الأردن، على بعد 3 كلم من حدود فلسطين مع الأردن، رحم الله المناضل الكبير أحمد الشقيري، وجزاه عما قدمت يداه لدينه ولوطنه وقومه جزاء حسنا. * * ------ * * 1) مولود قاسم، نايت بلقاسم: ردود الفعل الأولية على غرة نوفمبر.. ص203. * 2) آثار الإمام الإبراهيمي ج5 ص 51 - 52. * 3) خيرية قاسم: أحمد الشقيري، زعيما فلسطينيا ورائدا عربيا، ط. الكترونية. ص 103. * 4) أحمد الشقيري: قصة الثورة الجزائرية. ص16. ويظن أناس أن الأستاذ مولود قاسم هو أول من استعمل هذا التعبير. * 5) المرجع نفسه. ص26 * 6) المرجع نفسه. ص27 * 7) المرجع نفسه. ص 163 * 8) أحمد الشقيري: من القمة إلى الهزيمة. ص 165