يُسِرّ إليك البعض هذه الأيام ويُعلنون أحيانا أن الأيام القادمة وخاصة بعد الانتخابات ستختلط الأمور، ولا يتردد آخرون في القول إن الخروج إلى الشارع سيكون هو البديل للانتخابات إذا ما تم تزويرها.. وأن النار ستشتعل لا محالة.. تطابقت لدي مثل هذا الآراء في أكثر من مكان وبدا لي أنها ليست آراء بريئة، وعلينا أن نستبقها ببعض التحاليل لعلنا نساهم في توضيح الرؤية ودفع الناس إلى جلب بعض الماء لمنع شرارتها الأولى حتى من أن تشتعل. ليس غريبا أن يضعنا البعض بين خيارين لا ثالث لهما: التزوير أو الفوضى العارمة، إذا كنا لا نقدم لأنفسنا البدائل الملائمة التي تستجيب للتحديات الحاضرة والمستقبلية التي تعرفها بلادنا، وإذا كنا لا نسير باتجاه إيجاد المخارج اللاّزمة للمشكلة السياسية التي نعيشها هذه الأيام. ينطلق هذا التحليل من ثلاث أفكار مسبقة ويضعها لنا كمسلمات غير قابلة للنقاش: -الأولى: أن الشعب غير قادر على منع التزوير -الثانية: أن مرشح السلطة فائز لا محالة -الثالثة: أن التغيير السلمي لا يمكنه أن يحدث في بلادنا وينسى أن يربط هذه الأفكار المسبقة بما يمكن أن يجعلها تخرج عن دائرة المسلمات كأن يضيف عبارة "حتى ولو أراد" للفكرة المسبقة الأولى، وعبارة "في كل الحالات" للفكرة المسبقة الثانية، وعبارة "إذا لم نكن في مستوى ذلك" للفكرة المسبقة الثالثة.. بمعنى آخر أن الشعب يمكن أن يمنع حدوث التزوير إذا أراد وتجند لذلك، ويمكن أن لا يفوز مرشح السلطة في بعض الحالات وأنه يمكننا أن ننتزع التغيير السلمي إذا ما ارتقينا إلى مستواه. ولعل هذا ما أردت أن أُعقِّب به على تلك الآراء التي تكاد تجزم اليوم أن الأمر محسوم لأحد البديلين: إما مرشح السلطة أو الفوضى.. والفوضى أقرب لا قدر الله، في شبه استسلام غير مبرر لواقع مفروض ومرفوض. لقد عشنا في الجزائر تجربة سابقة لا نريدها أن تتكرر لكننا يمكن أن نأخذ منها عبرة: يمكننا أن نجري انتخابات نزيهة ونوجد الآليات اللازمة لمنعها أن تنقلب علينا خاصة وقد أصبحنا، بعد ما استفدنا به من درس، نملك من الإمكانات التكنولوجية ومن وسائل الاتصال الحديثة، ومن الوعي، ما يُساعدنا على ذلك. وهذا ليس بالأمر العسير اليوم. ومنه يتجلى الخلل في من لا يريد أن يراقب الانتخابات ومن استسلم بالقول: إنه لا يستطيع حتى إذا أراد. هؤلاء، من حيث يدرون أو لا يدرون، هم الذين يساهمون في تأكيد الفكرة المسبقة الأولى، ولهذا فليس من الحكمة أن لا يحاول المرء منع التزوير ويكتفي بالتنديد به أو انتظار أن يتحول إلى فوضى ليتباكى عليه أو ليكون من ضحاياه في المقام الأول. وبهذا الموقف يُصبح المواطن غير المساهم في منع التزوير جزءا من عملية التزوير إن لم يكن مدعما له. وإلى حد الآن نجحت السلطة في ذلك، عندما استغلت لامبالاة البعض وسذاجة البعض الآخر وكانت تقوم بما تريد... وأبقت من يدعي الإدراك والقدرة على التحليل ضمن مجموعة المتباكين على الوضع أو المستسلمين له. الفكرة المسبقة الثانية التي يبدو أنها تكاد تُصبح مسلمة لدى غالبية من الناس: (أنه لا حَظَّ لمرشح معارض للسلطة القائمة)، تأخذ هي الأخرى بعدا آخر عندما نميز فيها بين بعض الحالات كالتي نعيشها اليوم ويتبين لنا بوضوح شديد أنه يوجد فيها أكثر من مرشح لا يصنف نفسه ضمن المعارضة أو على الأقل المعارضة الراديكالية للسلطة. لماذا لا نعتبر هذه حالة مختلفة عما سبق من الحالات؟ لماذا نعتبر أنه يمكن في هذه الحالة أن تتبدل المعطيات وأن تقف السلطة على الحياد بين المرشحين؟ حقيقة عقولنا لم يتم تشكيلها على قبول هذه الفكرة ولكننا لا يمكننا أن نُلغيها كإمكانية محتملة يمكن الانطلاق منها لتحقيق أمر جديد. لماذا نُلغيها؟ لماذا نجمد عقولنا إلى هذه الدرجة؟ تلك بحق ظاهرة تحتاج إلى مزيد من الدراسة والتحليل. يبقى بيت القصيد: لماذا نتجه مباشرة إلى التصديق بأننا لا يمكننا أن نحدث التغيير إلا إذا لم يكن سلميا؟ لماذا اعتبار ذلك مسلمة غير قابلة للنقاش؟ الفكرة المسبقة الثالثة يبدو لي هنا أن المسألة تتعلق بالدرجة الأولى بكون النخبة التي يُفترض أن تقود عملية التفكير في التغيير هي الآن غائبة ومغيبة. وعندما تغيب النخبة يُصبح المجال مفتوحا لقبول البديل الأكثر شيوعا الذي ليس بعده بديل: العنف. أي عندما لا تحاول النخبة أن ترتقي إلى مستويات أعلى من التفكير في إيجاد حلول مناسبة للظرف الراهن أو تمتنع لا إراديا على ذلك يقفز العنف إلى المراتب الأولى. وهو ما يحدث اليوم. بالرغم من المحاولات القليلة التي قام بها بعض الرموز من النخبة لكي تقدم نفسها كمنطلق للحل، (وقفات أساتذة بوزريعة وبعض المواقف المتناثر هنا وهناك لبعض المثقفين حتى من غير الجامعيين...) لم تتمكن من أن تقدم نفسها كحاملة لتصور للحل. وبدا وكأنها هي الأخرى عندما عجزت عن الأخذ بزمام المبادرة بدأت تقترب من اللجوء إلى الأداة الأكثر بساطة في التغيير أي التظاهر في الشارع. وهنا نصل إلى السؤال المركزي الذي ينبغي أن يُطرح: لِمَ لا يقود مليون ونصف مليون طالب جامعي وملايين الطلبة الآخرين التغيير؟ لماذا لا ينطلق التفكير في بدائل أخرى غير العنف على مستوى الجامعة ويتم التفكير في ذلك على مستوى الشارع؟ أين هي هذه الملايين من المتعلمين الجدد؟ أم أنهم لا شيء في الساحة السياسية؟ تعيد هذه الأسئلة إلى الأذهان موضوع محتوى التكوين، وأي عقل شكلته منظومتنا التربوية من الابتدائي إلى الجامعة؟ ولماذا أصبحت الغالبية تفكر بهذا الشكل وتقبل بأن يكون بديل الاستسلام للأمر الواقع هو أفضل بديل. بل وتقبل سماع أن البلاد ستدخل في متاهة الفوضى في الأيام القادمة ولا تحرك ساكنا، وتعجز فوق ذلك عن اقتراح حلول أخرى غير الحَلّين المفروضين: النجاح حتى بالتزوير أو الفوضى بكل ما يحمل هذا المعنى من دلالات قاتمة بالنسبة إلى ذاكرة الشعب الجزائري القريبة جدا. لذلك تجدني أقول، ولو من باب عدم الاستسلام على الصعيد النظري، إنه ليس بالضرورة اليوم أن ينجح مرشح السلطة وليس بالضرورة أن ندخل في الفوضى إذا ما نجح.. وأننا بدل أن نبشر بأن النار قادمة علينا أن نهيئ ولو دلو ماء لإطفائها... ولنا في قصة طائر الكولبري عبرة (انظر مقالنا الأسبق)..