لم يتحرّج "مصطفى فاروق قسنطيني" رئيس اللجنة الوطنية لحماية وترقية حقوق الإنسان، الثلاثاء، من قصف المنظومة الإدارية في الجزائر بالثقيل، وفي تصريحات خاصة بالشروق أون لاين، قال قسنطيني بصريح العبارة: "الجزائر تخلصت من الاستعمار الفرنسي، لكنها لا زالت "مستعمرة بيروقراطيا" ! وجّه المحامي المخضرم سهامه مجددا إلى الإدارة، واعتبر أنّ "لعنة" البيروقراطية "أصبحت للأسف علامة جزائرية متميزة"، وذهب إلى أبعد من ذلك بقوله: "البيروقراطية الممارسة في المؤسسات هي التي أوقفت كل شيء وعطلت حصول المواطن على أبسط حقوقه في الآجال الطبيعية، وأردف: "الهوة تسببت في تكبيد الجزائر تأخرا يربو عن الثلاثة عقود"، مشيرا إلى أنّ الأمر لا يتعلق بالمسؤولين فقط، بل بما سماها "العقلية والثقافة السائدة". كلام قسنطيني يعيد طرح تساؤلات ملّحة حول راهن الإدارة في الجزائر، بعدما سبق للوزير الأول عبد المالك سلال أن اعترف في أواخر سبتمبر 2012، أن"المواطن في واد والإدارة في واد آخر"، وتعهّد آنذاك بأن استعادة ثقة المواطن في الإدارة العمومية تأتي على رأس أولويات حكومته الجديدة، قائلا قبل سنتين: "حان الوقت لتطهير الإدارة من البيروقراطية"، وتوعد الوزير الأول بعزل مسؤولي الإدارات المحلية الذين يرفضون التواصل مع المواطنين والتكفل بانشغالاتهم بالعزل. ماراثون الركض من دون طائل يهدر المواطنون أوقاتا كثيرة في الركض وراء استخراج الأوراق الإدارية وتشكيل الملفات الثقيلة في عملية أضحت هاجسا في رحلة غير منتهية، ويرى البعض أن عملية استخراج الأوراق الإدارية وتشكيل الملفات في الجزائر أصبحت مشكلة حقيقية خاصة مع انتشار البيروقراطية في التسيير الإداري والمحسوبية والفساد، فالمواطن اليوم أصبح يسمع الأغنية المشطورة: "الملف ناقص، المسؤول غير موجود - ارجع غدا". الظاهرة مثيرة للاستغراب بعدما بدأت الجزائر منذ 14 سنة على الأقل، سلسلة إصلاحات مست جميع القطاعات بما فيها القضاء، المدارس وسائر أجهزة الدولة وجرى التغني ب"الإدارة الالكترونية"، إلاّ أنّ مشاكل الإدارة لازالت متواصلة خاصة لدى المواطنين سيما البسطاء. تداعيات شلّت الاقتصاد في تصريحات صحفية سابقة، تقاطع د/مصطفى مقيدش نائب رئيس المجلس الوطني الاقتصادي الاجتماعي، مع الخبير "عبد الحق لعميري" في كون البيروقراطية وراء شللية الاقتصاد، في صورة ما يطبع تعاطي الإدارات والبنوك مع جمهور المستثمرين، وذاك ألقى بظلاله على حركية القطاع الخاص، المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وكذا السياحة، ويقدّر الخبير الاقتصادي محمد حشماوي أنّ البيروقراطية "آفة تقتل الاستثمار". ويبرز "يحيى زان" رئيس اتحاد المهندسين الزراعيين، أنّ "معوقات بيروقراطية" تسببت في رمي وعاء هام يربو عن 560 طنا من التونة الحمراء في عرض البحر قبل فترة، بعد تمسك وزارة الصيد البحري برفض تسليم وثائق الإحصاء للجارة تونس، التي تولت تسمين هذا النوع السمك تبعا لافتقار الجزائر إلى مزارع خاصة، بكل ما ينجرّ عن ذلك من انعكاسات سلبية على اقتصاد وطني يقوم 98 في المائة من موارده على عائدات النفط. المعطى بكل ما يسبّبه من استنزاف لمنظومة الصيد الوطنية، كان بإمكان الجزائر تلافيه لو تعاملت الدوائر المختصة بفاعلية وحزم مع المسألة، ورغم أنّ الجزائر طرف في الاتفاقية الدولية لحماية التونة، إلاّ أنّ قطاع صيد سمك التونة الحمراء يصطدم بجملة من العراقيل والمشاكل جرّاء بيروقراطية الإدارة المحلية للصيد البحري، التي أقدمت على منع متعاملين جزائريين من الصيد بالمياه الدولية لصيد سمك التونة، وما ترتّب عن ذلك من حرمان الجزائر من استغلال الحصة التي تمنحها سنويا المنظمة الدولية لحماية الأسماك في البحر الأبيض المتوسط والمحيطات من سمك التونة الأحمر إلى الجزائر والمقدرة ب 1100 طن، علما أنّ هذه الكمية موزّعة بين 322 طنا لليابانيين، وفي حدود ثمانمائة طن للصياديين الجزائريين. كما يؤكد "فؤاد شحاط" مدير المعهد الوطني للبحث الزراعي أنّ بقاء البيروقراطية يحول دون جني الثمار المرجوة في القطاع الفلاحي ويكشف شحاط عن أعطال بالجملة جرّاء تسوية 10 في المائة من مشاكل العقار، الخمس سنوات الأخيرة شهدت وهذا ما عطّل الاستثمارات، تماما مثل البيروقراطية التي قصمت ظهر التأمينات رغم كل المتغيرات والانفتاح اللذين حظي بهما القطاع منذ نصف زمن، ويتسم هذا الميدان الحساس بركام من التباينات والشكاوى إزاء ثقل تكاليفه وبطء تعويضاته. المدن الجديدة لم تخرج من عنق الزجاجة أطلقت السلطات توليفة المدن الجديدة لامتصاص الضغط وفتح فضاءات جديدة بوسعها التحوّل إلى مراكز ثقل اقتصادية، بيد أنّ هذه المدن الوليدة ظلت محض سراب بفعل قرارات غامضة جمدتها تجميدا كاملا رغم الأموال الضخمة المرصودة. يشمل المخطط المعلن عنه قبل سنوات طويلة إنشاء خمس مدن جديدة بمناطق بوغزول (155 كلم جنوب)، سيدي عبد الله (40 كلم غرب)، بوينان (50 كلم جنوب)، المنيعة (870 كلم جنوب)، وحاسي مسعود (900 جنوب العاصمة)، وفيما أعلن عن "بوغزول" كقطب للطاقات المتجددة، جرى تصنيف "سيدي عبد الله" كعاصمة للاستثمار في اقتصاد المعرفة والتكنولوجيات الحديثة، بينما أسند إلى "المنيعة" دور سياحي، وآخر رياضي خدماتي إلى "بوينان"، في حين تقرر جعل "حاسي مسعود" جزيرة خضراء تزاوج بين الاندماج البيئي والأنشطة الطاقوية. المثير للتساؤل والحيرة، أنّ مشاريع المدن الخمس المذكورة لا تزال رهينة احتباس إداري مزمن رغم إطلاقها في الفترة ما بين 2004 و2006، فمدينة بوغزول التي تسارعت أشغال انجازها بين عامي 2007 و2010 وجرى الحديث عن إعدادها لتصير عاصمة الجزائر الاقتصادية في آفاق العام 2025، سرعان ما "سقط كل شيئ في الماء" بقرار حكومي غامض في ربيع سنة 2011، بحجة عدم احترام الكونسورسيوم الكوري الجنوبي "دايو انرجي اندكونستريكشن" لدفتر الشروط. بدورهما، لا تزال مدينتا بوينان والمنيعة تئنان تحت طائلة التسويف والإرجاء، تم تسليم جزء صغير من مدينة سيدي عبد الله سنة 2004، ليصيح مأوى للطلبة الى يومنا هذا، في حين باتت مدينة حاسي مسعود في خبر كان بعد تفجر فضائح تسيير مجمّع "سوناطراك"، وسط تصريحات مشطورة عن بعث مشروع المنيعة في نهاية الثلاثي الأول من العام الجاري، على أن تكون الجاهزية سنة 2020، تماما مثل المدينة الجديدة لحاسي مسعود التي لن تعرف النور قبل عام 2022. ويذهب المستشار محمد بن غربي إلى أنّ سوء التسيير واللاكفاءة وراء الجمود الإداري الحاصل، بينما تربط المهندسة حورية بوحيرد ما يحدث بما تسميه "عدم وجود إرادة سياسية"، بجانب "سوء التسيير وانعدام التخطيط" مركزة على حساسية تبديد عراقيل ثقل الإدارة ومشاكل البيروقراطية، إذا ما أرادت الجزائر فعلا الخروج من عنق الزجاجة.