في وقت كان سعداني ينسج خيوط قيادة الأفلان للسنوات الخمس المقبلة بالقاعة البيضوية بمركب محمد بوضياف، كان بن صالح على بعد مئات الأمتار، يخط ورقة استقالته من على رأس القوة السياسية الثانية في البلاد، فاسحا المجال أمام عودة أويحيى لعرينه. البعض اعتبر ذلك مقايضة للحفاظ على التوازنات في هرم السلطة. ما مدى جدية هذه القراءة؟ وهل لمرور مؤتمر الأفلان في هدوء علاقة بتنحي بن صالح من الأرندي؟ وما علاقة ذلك بما تنتظره البلاد من استحقاقات؟ هذه الأسئلة وأخرى يجيب عنها "الملف السياسي" لهذا الخميس. تحسبا لاستحقاقات مرتقبة "الدولة العميقة" تخرج رجالها للواجهة خلُصت التوافقات في قمة الهرم السياسي إلى ترتيب بيت السلطة وفق ثلاثة مخارج، تمثل الأول في تثبيت عمار سعداني، أمينا عاما لجبهة التحرير الوطني، والثاني في تكريس أحمد أويحيى خليفة لعبد القادر بن صالح على رأس التجمع الوطني الديمقراطي، فيما أدرك عبد المالك سلال، الغطاء السياسي. ولأن ما يحدث من تحوّلات على مستوى الأحزاب المعروفة بموالاتها للسلطة، لا يعدو أن يكون انعكاسا لمعارك تجري خلف الستار، فإن النتيجة التي لا يمكن أن يختلف بشأنها اثنان، هي أن الضحية الأولى لهذه التوافقات هو الأمين العام السابق للحزب العتيد، عبد العزيز بلخادم، الذي بات هو وأنصاره، خارج المعادلة السياسية، ليس داخل "الحزب الجهاز" فقط، بل حتى خارجه، بعدما جُرّد من المسؤوليات السامية في الدولة، التي عادة ما تجلب لأصحابها النفوذ في الحياة الحزبية. وبات واضحا أن الكثير من التطورات تنتظر المشهد على مستوى حزبي السلطة، تحسّبا للاستحقاقات التي تنتظرها البلاد، مثل تعديل الدستور وما يمكن أن يترتب عليه من تدابير حمائية، لضمان نجاح هذا الاستحقاق، الذي عمّر لأكثر من أربع سنوات. وكشف المؤتمر العاشر ل "العتيد" وما تمخض عنه من نتائج، أن القيادة الحالية للأفلان، باتت تتمتع بأريحية أكثر من ذي قبل، على مستوى تسيير شؤون الحزب، لكن خارجه (البرلمان) لا تزال الأمور ملغّمة، بدليل التمرد الذي قاده نحو ثمانين نائبا ضد سعداني عشية انعقاد المؤتمر. وبعد كل ما حققه سعداني من انتصارات على خصومه، فإن مطلبه المبرمج هو الدعوة إلى انتخابات برلمانية مسبقة، فهو يعتبر نواب العهدة التشريعية الحالية 2012/ 2017، من إنتاج خصمه اللدود، عبد العزيز بلخادم، وهي التسريبات التي تتردد بقوة داخل أروقة الحزب العتيد. وما يعطي لهذا المطلب مصداقية وثقلا عند الرئيس بوتفليقة، هو ارتباطه بورشة تعديل الدستور، الذي يمر حتما عبر القناة البرلمانية، ما يعني أن مرور التعديل الدستوري بنجاح عبر هذه الآلية، يبقى محل شكوك من طرف جناح الرئيس، طالما أن ما تبقى من أنصار بلخادم داخل غرفتي البرلمان، قد لا يهضمون وقوف الرئيس ضد زعيمهم في المؤتمر الأخير، وهو ما قد يساهم في دفعهم إلى اعتراض المشروع. وفي الجهة المقابلة، تؤشر العودة المحتملة لأويحيى إلى واجهة "الأرندي"، على زوال الاحتقان بين المصارعين الكبار، بخصوص الدور المسموح ل "عبد الدولة" أن يلعبه في المرحلة المقبلة، التي قد لا يخلو منها احتمال إجراء انتخابات رئاسية مقبلة. وهنا تبرز جملة من الأسئلة، أولها: هل هذه العودة تعبر عن اطمئنان الجناح الرئاسي من أن أويحيى الذي تجرّع مرارة الإقصاء من الواجهة السياسية، قد لا يغامر مرة أخرى؟ أم إن الرجل لم يعد يخيف؟ أم إن الانتخابات الرئاسية المسبقة غير مطروحة بتاتا للنقاش، إلا في حال القوة القاهرة.
التطورات الأخيرة تؤكد قدرتها على المبادرة إرهاق المعارضة يعيد للسلطة أنفاسها يقرأ كثير من المراقبين في التطورات الأخيرة التي عرفها حزبا الأفلان والأرندي، تحضير السلطة لاستحقاقات قريبة، من شأنها أن تعيد لها القدرة على المبادرة، والانتقال من مربع الدفاع إلى دائرة الهجوم، بعدما ظلت لأشهر تسعى إلى استمالة المعارضة، ومحاولة إقناعها بالالتقاء على كلمة سواء. وفي وقت، كان خصوم السلطة، يعوّلون على تنازلها الطوعي في تلبية مطالبهم الأساسية، بالنظر إلى معطيات السوق النفطية، مقابل تصاعد الاحتجاج الاجتماعي، وتحديات الوضع الأمني الإقليمي، ردّت هذه الأخيرة بطريقتها الخاصة، فترتيب بيت الموالاة، عبر الحسم في التنازع التنظيمي داخل حزبي السلطة، خاصة مع التحاق وزراء بالأفلان وعودة أويحيى، مؤشرات واضحة على نيّة السلطة في التوجه إلى مرحلة جديدة، لعلّ أبرز سيناريوهاتها برأي المتابعين هو تمرير الدستور، وربّما الذهاب نحو تشريعيات قبل أوانها، ولم لا حتى رئاسيات مسبقة. وعلى ضوء هذه التطورات، فإنّ التساؤل المطروح: ماذا تغيّر منذ 17 أفريل 2014 إلى اليوم، حتى تفكر السلطة بمنطق الواثق من قدرته على تسيير الملفات السياسية الساخنة، فخلال سنة كاملة من عمر العهدة الرابعة، بدت السلطة متردّدة في فرض خياراتها الكبرى، في ظلّ تكتل المعارضة وتصعيد نبرتها تجاه الرئيس وفريقه تحديدا، ما جعله يمدّ يده لها، عبر خطاب التوافق الذي جاء في خطاب أداء اليمين، ثمّ ما فتئت بعده أحزاب الموالاة تردّده في كل المجامع، لعلّ وعسى أن يلين جنب المعارضة لإرادة السلطة في استيعاب الغضب، وتخفيف حالة الاحتقان المتولد عن ترشح الرئيس لعهدة جديدة برغم وضعه الصحي الحرج. وإجابة عن السؤال المطروح، فإنّ البعض يقدم التحاليل الجاهزة بشأن موازين القوى أو التسويات بين دوائر القرار، لكن المؤكد في هذا السياق، هو تراجع فعل المعارضة وانكماش مساحات المناورة لديها، فتنسيقية الانتقال الديمقراطي التي شكلت الحدث صيف 2014، خفت بريقها وانطفأ وهجها أكثر بعد وقفة الغاز الصخري يوم 24 فيفري الماضي، وبين مواجهة الإدارة في معارك التراخيص والتوجّه إلى مناقشة القضايا الموضوعاتية، ظهرت التنسيقية في صورة المقاوم الذي يبحث عن تسجيل الحضور لا أكثر. وموازاة مع ذلك، رمى "الأفافاس" المنشفة بعدما نفض يديه من "الإجماع الوطني" الذي اصطدم برفض المعارضة وتعنت السلطة، التي ترقُب تحركات المعارضة، وتراهن على عامل الزمن في استنزافها، حتى تأكدت من عجزها عن تحريك الشارع، بعدما تحولت أفعالها من الصراخ إلى التنديد، وانتهاء بالبكاء على الأطلال. في ظل هذه المعطيات، وعلى سوء وضعها الداخلي، فقد تمكنت السلطة من التقاط أنفاسها، لتقرّر لملمة أوراقها من جديد، استعدادا لأخذ المبادرة في صناعة المشهد السياسي ضمن الأفق القريب والمتوسط، فهل تستكمل مخطط الاستفراد بمصير البلد أم إنّ المعارضة ستباغتها من حيث لا تدري؟
كريم طابو يستشرف المرحلة المقبلة "التّماسك الوطني أصبح أصعب والبلاد تغرق أكثر في الأزمة"
عرفت أحزاب السلطة تطورات متزامنة ومتسارعة، كيف تفسّرون ذلك؟ كلّ هذا الحراك ما هو إلاّ محاولة لإقناع الرّأي العام على أنّ هناك تغييرا وحركة بهدف إبقاء كلّ شيء على حاله. البلاد لم تبلغ من قبل هذا المستوى من الرّداءة، التّفاهة والاحتقار تجاه الجزائريين. مؤتمر الأفلان والتغيير على رأس الأرندي والتّعديل الحكومي الأخير، هي مكوّنات لوصفات مطبخية، والطبّاخ في الظلّ وفي مكان مجهول يعمل في الخفاء وهو الوحيد الذي يعرف التّوقيت المناسب لتقديم الوجبة. كل الصفقات والتّرتيبات هدفها إيجاد توافق داخل السّلطة وضمان بقائها. إنّها انتخابات رئاسية مسبقة تجري في حلقة مغلقة، حيث فقط أفراد العائلة والعشيرة يتمتّعون بحقّ الانتخاب. هم بمثابة نواب وأوصياء على الجزائريين. هم يلومون المعارضة على مطالبتها بإجراء انتخابات مسبقة ليقوموا وحدهم بهذه المهمة.
في اعتقادكم، هكذا تطورات تكون قد تمّت بتلقائية، أم أنّ خيوطها نُسجت من وراء السّتار؟ لا. هذا ليس تلقائيا ولا من قبيل الصّدف. فمن يقرّرون في الخفاء هم بصدد تعبيد الطريق أمام قائد العشيرة. فالبلاد اليوم رهينة في أيدي مجموعة من الناس همّها الوحيد ضمان بقائها في السّلطة. السؤال الذي يبقى مطروحًا هو: إلى أين تسير الجزائر؟ بلد يحمل تاريخا عظيما وبطولات رجال ونساء حملوا إلى أعلى مستوى قيم الحرية والعدالة، لا يجب أن يبقى تحت رحمة حقد وضغينة هؤلاء. رفض ديكتاتورية هؤلاء يُعتبر سلوكا وعملا ثوريا.
بعد كلّ الذي حدث، هل يمكن القول أنّ السّلطة خيّطت العملية السياسية على مقاسها؟ كعادتها، السّلطة تنظّم أمورها من الدّاخل، ثمّ تنظّم الكرنفال، وهذه ممارسات موروثة من الحقبة الاستعمارية، حيث كان الجزائريون يعتبرون أهالي ومواطنون من الدرجة الثّانية. اليوم، هم على نفس الحال في نظر السّلطة. الاختلاف يكمن في كون جزائري اليوم بإمكانه امتلاك هاتف smart phone ولكن ليس له حقّ تقرير مصيره بنفسه والمشاركة في تسيير شؤون البلاد. هذا ما يسمى بعبودية العصر الحديث. الواضح اليوم أنّ السّلطة بصدد خياطة فستان على مقاسها والباقي كلّه توزيعا للأدوار والمهام. الذين ينتظرون ويأملون في التغيير من داخل السّلطة عليهم الانتظار عشرات السّنين أو قرون بأكملها. إنه من المستحيل استخلاص شيء إيجابي من نظام متعفّن أكبر مواصفاته: العنف، الرّشوة، الجهويّة.
على ضوء ذلك، ما هي السيناريوهات المحتملة خلال المرحلة القادمة في رأيكم؟ البلاد ستغرق أكثر في الأزمة. الحفاظ على التّماسك الوطني أصبح مهمّة صعب تحقيقها. غياب الديمقراطية وأيّ بوادر للتطور من شأنها عرقلة مستقبل واستقرار البلاد. عندما تحلّل وضعية البلاد والطرق التي تُسيَّر بها شؤونها وانتشار الرّشوة على كلّ مستويات السّلطة والاستحواذ على ثروات البلاد وتجذيرها، يتبادر إلى ذهننا سؤال ملحٌّ هو: هل هؤلاء ليسوا بصدد تطبيق مخطّط جاء من الخارج؟ أهل عدو البارحة لم يوكّلهم مهمة تدمير البلد وتاريخه؟ وحتى نبقى في تناسق مع التّاريخ، فإنّ 1954 هو اليوم!
قال إن ترتيبات النظام لن تنقذه من التغيير .. مقري: "ما وقع في أحزاب السلطة تحضير للمشهد المستقبلي"
ما قراءتكم لتزامن التطورات الحاصلة في أحزاب السلطة؟ هذه التطورات تدخل ضمن سلسلة الإجراءات التي قامت بها السلطة، للتحضير لمرحلة مقبلة تكون فيها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية صعبة، فتتحول الأريحية من صف السلطة إلى صف المعارضة التي ظلت تؤكد بأن النظام يجرنا إلى أزمات كبرى بسبب فشله في تنويع الاقتصاد والفساد المعمم وسوء التدبير والصراعات العميقة بين مختلف أجنحته، وتأتي هذه التطورات على مستوى الأفلان والأرندي في نفس سياق التغيير الحكومي والتغييرات التي وقعت على مستوى المؤسسات الاقتصادية والإدارية. غير أن التغييرات تحمل طابعا إضافيا حيث أن النظام أُحرِج كثيرا أمام حالة الإجماع الحاصلة على مستوى الطبقة السياسية بضرورة أن يكون الجهاز التنفيذي في يد الأغلبية البرلمانية، فبدل أن يوهب الحكم للآفلان وهبوا الأخير لمن بيدهم الحكم فأصبح رئيس الجمهورية رئيسا والوزير الأول أصبح بقدرة قادر مناضلا مثلما نعته سعداني الذي وصفه من قبل بالفاشل سياسيا، ومُلئ بذلك برموز الفساد المحلية في توزيع جديد داخل شبكات الفساد المعمم. هل تعتقد أن هذه التطورات مرتبة مسبقا أما أنها أحداث تلقائية؟ الخاص والعام يعلم بأنها مرتبة مسبقا، فالحزبان جهازان يسيران بالإيعاز أكثر منهما حزبين يخضعان لمؤسسات ديموقراطية، أذكر جيدا حوارا كان بيني وبين أحد أقطاب حزب من هاذين الحزبين قبل الرئاسيات قلت له: كيف سيكون موقفكم في الانتخابات، قال لي: لم يعطونا الإيعاز بعد، فقلت له مازحا: كيف تقول لي هذا وأنت على ما أنت عليه من المستوى والتجربة، قال لي: هكذا هو نحن نتحرك بالإيعاز الفوقي فلو طلبوا منا أن نؤيدك أنت رئيس "حمس" لفعلنا! أما الأرندي فموصوف من طرف المسؤولين فيه بأنه ثكنة عسكرية تُسير بالتعليمات والأوامر ولا يقع العسر في ترتيب أموره إلا حينما يختلف من يمسك الريموت كونترول، ويبدو أنه وقع توزيع للأدوار ولمناطق النفوذ في الرقعة الحزبية لأحزاب السلطة تحضيرا للمشهد المستقبلي.
على ضوء ذلك ما هي توقعاتكم بشأن سيناريوهات المرحلة المقبلة؟ لن تنقذ هذه الإجراءات السلطة الحاكمة، فالمشكل بعد سنوات قليلة لن يكون بينها وبين الأحزاب، بل بينها وبين الشعب. لقد صنعت سياسة شراء السلم الاجتماعي وتعميم الفساد والأخلاق الانتهازية شعبا لا يؤمن في عمومه لا بالسلطة ولا بالأحزاب، وإذا اعتبرنا الأزمة السياسية الاقتصادية والاجتماعية التي بشرنا بها سلال مؤخرا (بعد أن كان ينكرها) يكون السيناريو واضحا: هو اضطرابات متصاعدة قد ترجعنا لسنوات 1986 فأحداث أكتوبر 1988 . ومن الأدوار التي تعد المعارضة لها نفسها هو كسب مصداقية كافية لدى الجماهير بما يجعل سخطها مساعدا للتغيير وليس مدمرا للبلد، فالجماهير حينما تخرج للشارع بلا قيادة يكون خروجها مدمرا، وحينما تجد من تعتمد عليه يكون خروجها نافعا. لا شك أن الانتقال الديمقراطي بالتوافق الآن يكون أكثر سلاسة منه أثناء الأزمات الكبرى، ولكن للأسف هذا غير متوقع لأن الذين يحكمون في هذه المرحلة ينقصهم الرشد وبعضهم لا وطنية لهم ولا تهمهم إلا مصالحهم للأسف الشديد وهم على استعداد للانتقال إلى الخارج حينما يتألم الوطن وتهتز أركانه.