تشرفتُ بتلقي الدعوة للمشاركة في الاحتفال الخاص بذكرى العلامة الفلكي المولود الحافظي الأزهري، بمسقط رأسه في قرية آث حافظ، دائرة آث وارثيلان، ولاية سطيف. والحق أن الفرحة فرحتان لتزامن هذا الاحتفاء، بالمولد النبوي الشريف، وبعيد استقبال الربيع الذي دأب الأمازيغ على الاحتفال به في سياق إحياء الأعياد الفلاحية الموسمية، ميزته زرع الغبطة في القلوب، بإعداد أطباق الفطائر المحلية، وإسعاد الأطفال بالحلويات (إطالعَنْ)، وتنظيم النسوة لجلسات المرح (اُورَارْ)، كل ذلك من باب التفاؤل بالحياة. وأعطى حضور رئيس دائرة آث ورثيلان ورئيس بلدية عين لڤراج، الانطباع بوجود تفاهم وتوافق بين المجتمع المدني، والسلطات المحلية، لرعاية الرصيد الثقافي لهذه المنطقة، بشقيه الأمازيغي والإسلامي. وعندما نزلت ضيفا على أهل قرية آث حافظ الطيبين، عادت بي الذاكرة إلى الماضي، حين كانت منطقة آث وارثيلان تعج بالزوايا (ثيمعمرين) والكتاتيب، المنتشرة في معظم قراها، خاصة في أولمُوثَنْ، وفريحة، ومزّين. وكان الإقبال عليها شديدا إلى درجة أن الفتوى كانت في متناول العجائز بالسمع والمجالسة. ثم تدعم العلم بمجموعة من المدارس العربية الحرة في كل من القاع وزرو، وأولموثن، والجمعة. وأنجبت هذه المنطقة علماء كثيرين عبر التاريخ ساهموا في بناء صرح المعرفة على المستوى الوطني، أمثال الحسين الورثيلاني، والفضيل الورثيلاني، والشيخ السعيد أبهلول وأبنائه (محمد الطاهر، محمد الحسن، عبد المالك)، ويحي حمودي ونجله عبد الله، ومحند أرزقي كتاب، وغيرهم. هذا وقد مرت صورة هذه المآثر العلمية في ذهني مر السحاب. تقع قرية آث حافظ في مرتفعات آث وارثيلان الخلابة، التي تكتسي في الشتاء برنوسا أبيضا بفعل تراكم الثلوج، لكن الطبيعة لا تلبث أن تغير لباسها عند قدوم الربيع، فتتحول إلى بساط أخضر مزركش بألوان متعددة من الزهور والنباتات البرية والأشجار المورقة، تخترقها مياه السواقي الرقراقة، التي تضفي على اللوحة الطبيعية الخلابة رونقا، وتزيدها أسراب الطيور بهاء، حتى تكاد الطبيعة تنطق باسم الله الذي أبدع في خلقها. متحف القرية إن ما شد انتباهي في قرية آث حافظ هو تعلق أهلها بتاريخهم وثقافتهم المحلية، وقد نجحوا في ربط الحاضر بأمجاد الماضي، بواسطة متحف القرية (متحف ثيزيري)، الغني بمحفوظاته المتنوعة، بين الأثاث القديم، ومواعين المنزل، وأدوات الأشغال الفلاحية، والمخطوطات، والملابس، والفرش، ولوازم العلامة الشيخ المولود الحافظي، والأسلحة الحربية للقرنين العشرين والواحد والعشرين، وفيه أيضا أقراص الحاسوب الحافظة لشهادات الكبار حول تجاربهم الماضية، ولتسجيلات مختلف السوانح الثقافية، بل وفيه أيضا حتى الجماجم البشرية! وبذلك فهم يستحقون فعلا تسمية آث حافظ، لأنهم حفظوا تراث قريتهم. ويعود الفضل في بناء هذا الصرح الثقافي (المتحف) إلى تضافر جهود رئيس بلدية عين لڤراج مع جهود سكان القرية، الذين وجدوا في شخص مالك ونوغي (أستاذ اللغة الفرنسية) خير مسيّر له، وقد شهد له الجميع بتفانيه في إثراء وصيانة هذا المتحف، على حساب راحته وراحة عائلته أحيانا، وعليه فلا يسعني إلا أن أوجه له الشكر والعرفان على نجاحه الباهر في أداء مهمته. وانتهز هذه الفرصة لألفت انتباه مديرية الثقافة لولاية سطيف الموقرة، إلى ضرورة التفكير في أمر رعاية هذا المتحف، الذي سيكون لبنة جديدة في ترسيخ ثقافة التاريخ في المجتمع. الطفولة الشقية ولد المولود سحابي بن الصديق الحافظي، في شهر الربيع الأول سنة 1880م ، وكان من عادة أهل المنطقة أن يسموا مواليد هذا الشهر، باسم " المولود" تبركا بمولد الرسول (صلى الله عليه وسلم). ولعل ما تجدر الإشارة إليه في حياة المولود الحافظي أنه دخل الى معترك الحياة في سن الطفولة، فتمرس بالصعاب حتى صار يستلذ ركوب الخطر في شبابه، وصار نموذجا للتحدي. فقد عاش ظروفا قاسية يمكن إجمالها، في وجود الاستعمار الغاشم، وفي عزلة قريته الضائعة في دروب وعرة، وكون والده فظا غليظا، فضل أن يكون فلذة كبده راعيا وفلاحا، على أن يتجه نحو الدراسة، وقد نلتمس له عذرا، لصعوبة الحياة، التي زادها نير الاحتلال تفاقما. ورغم صعوبة الحياة فقد نجح المولود الطفل في حفظ القرآن على يد الشيخ الصديق أوميان بمسجد القرية، وفي نيل نزر يسير من التعليم الفرنسي، استفاد منه في حياته. لكن القدر شاء أن يدخل المولود الحافظي معترك الحياة في وقت مبكر، بسبب دخول والده الى السجن، وأمام رقة حال أسرته فقد أشار عليه بعض أقاربه ببيع قطعة أرض، لتوفير المال الضروري لتكليف محام بالدفاع عن والده. ولم يدر المولود الشاب أن ذلك سيثير غضب والده، الذي عزّ عليه أن تباع قطعة من أرض أجداده، فبدل أن يشكره على صنيعه، هدده بالموت حين خروجه من السجن((1. حياة كفاح وعلى اثر ذلك قرر المولود الحافظي مغادرة القرية، وكانت وجهته الى تونس حيث يقيم أحد أقاربه، فساعده في الحصول على وظيفة محصل في تراموي. وبعد أن جمع مبلغا معينا من المال، سافر سنة 1906م، وبطريقة غير شرعية الى القاهرة، والتحق بجامع الزيتونة للدراسة. وبعد سنوات عديدة من الكد والجد في ظروف صعبة، كللت جهوده بالنجاح فتحصل على الشهادة العالِمية عن جدارة واستحقاق، أهلته للتدريس في الزهر، علما أنه تفوق في العلوم الشرعية والعقلية خاصة في علم الفلك. ومما زاد في سمو منزلته العلمية في مصر، تفوقه في مناظرة علمية على أحد زملائه وهو الشيخ الرداد البرقاوي الطرابلسي، أمام جمع غفير من الحضور((2. هذا وقد ذكر بعضَ أساتذته في مقالاته كيوسف الدجوي، ومحمد يخيت مفتي الديار المصرية، ومحمود الخطاب. وانتهز فرصة وجوده في المشرق ليتجوّل في بعض الأقطار العربية والإسلامية، كالشام والعراق، وباكستان، ولا شك أن ذلك قد زاده علما ومعرفة بأحوال الشعوب والأمم. تعاطفه مع ثورة سعد زغلول يبدو أن المولود الحافظي كانت نفسه كبيرة، فاهتم بالأوضاع السياسية المصرية اهتماما كبيرا، وبغليان الحركة الوطنية التي كان الأزهر طرفا فيها، إذ وقف الطلبة في صف ثورة سعد زغلول المندلعة سنة 1919م، وهي الثورة التي شارك فيها أيضا بعض الطلبة الأجانب، منهم المولود الحافظي، ولعل ما يؤكد ذلك، إصدار السلطات البريطانية في مصر قرار طرد ه من مصر، ثم ورود اسمه في القائمة السوداء التي أرسلتها المخابرات الفرنسية من مصر، الى سلطات الجزائر، تضمنت أسماء الطلبة الذين تعتبرهم عناصر قد تشكل الخطر على أمن الدولة الفرنسية في الجزائر(3). منعه من دخول أرض الوطن عندما قرر العودة الى أرض الوطن سنة 1922م، فوجئ بتوقيفه عند الحدود التونسية، ومنعه من الدخول الى الجزائر، إلا بتقديم عائلته ضمانات تتعهد بموجبها بعدم تعاطيه لنشاطات سياسية ضد فرنسا. وكان والده -في هذه الأثناء- قد توفي، فتكفل الشيخ الخرشي إمام آث وارثيلان بقضيته، واتصل بقايد العرش عمر بن عبيد، الذي تفهم وضع الحافظي، فتوسط له لدى الإدارة الفرنسية. وعلى اثر ذلك سمح له بالدخول الى أرض الوطن، بعد غياب دام 16 سنة، وكانت عودته من الأيام المشهودة في قرية آث حافظ، وحظي باستقبال يليق بمقامه السامي بصفته عالما أزهريا، عاد ليسهم في نشر نور العلم والمعرفة بين إخوانه. وبالنظر الى مضايقة الاستعمار له فقد كانت حريته مقيدة، وألقى ذلك بظلاله على نشاطه إلى حد ما(4). أفكاره الإصلاحية يمكن إجمال أفكاره الإصلاحية في النقط التالية: - محاربة الجهل ونشر المعرفة والثقافة العلمية (خاصة علم الفلك). - الدعوة الى الإسلام الصحيح (تصحيح العقيدة). - الدعوة الى توحيد جهود العلماء، منذ سنة 1926. - محاربة الذهنية العرفية والعادات المخالفة لمقاصد الشرع. - محاربة مظاهر الشعوذة والدروشة. - تقديم النصيحة للزوايا من أجل إحداث الإصلاح التربوي، الضروري لإخراجها من الانحطاط. نشاط المولود الحافظي ركز المولود الحافظي نشاطاته الفكرية حول المحاور التالية: أ- التنوير الإعلامي، ب- التربية والتعليم، ج- توثيق عقود المعاملات، وإصلاح ذات البين. أ- التنوير الإعلامي: كان المولود الحافظي يملك قلما مكتابا، أهّله للكتابة الصحفية الراقية، وتميزت كتاباته بسلاسة اللغة، وقوة الحجة، وغزارة الأفكار، فجاءت مقالاته مطوّلة، كانت تنشر في عدة حلقات في أغلب الأحيان. وكان أيضا يحسن المناظرة العلمية ونقد الرأي الآخر، كما كان جريئا في إبداء أرائه الفكرية، ومتجاوزا لأدبيات المجاملة إلى درجة الإحراج أحيانا. هذا وقد نشر مقالاته في المنابر الصحفية منها: كجريدة النجاح (منذ سنة 1923)، وجريدة الشهاب(1925)، وادي ميزاب((1926، مجلة الشهاب((1930، جريدة النور((1932، جريدة البلاغ(1932)، جريدة الإخلاص((1932. وكتب آخر مقال له سنة 1947، ونشره في جريدة البلاغ. ب-التربية والتعليم: أدرك العلامة المولود الحافظي -كغيره من رجال الإصلاح- أن الطريق إلى النهضة الفكرية، مرهون بإحداث إصلاح تربوي في مؤسسات الزوايا، التي نخرها الجمود والركود، وفي بناء مدارس حديثة تلقن العلوم الشرعية والعلوم العصرية. لذلك بادر بتأسيس مدرسة بمنزله، بقرية آث حافظ، لكنها لم تعمر طويلا لذا قضى مساره التعليمي في زاويتي عبد الرحمن اليلولي (ولاية تيزي وزو) الذائعة الصيت، والزاوية الحملاوية بالعثمانية (غرب قسنطينة)، وأفادهما بأفكاره الإصلاحية وبإنشائه ساعة شمسية فيهما، وترك فيهما ذكرا محمودا، بفضل دروسه المتميزة بالتجديد التربوي. ثم أنهى مساره التعليمي بالمعهد الكتاني بقسنطينة، تلبية لدعوة مؤسسه الشيخ عمر بلحملاوي اثر نقله لزاويته إلى المدينة، ومكث هناك إلى أن توفي يوم 3 فيفري 1948م، وقد أعلن المعهد الحداد لمدة ثلاثة أيام، تقديرا لمكانة هذا العلامة الأزهري. ج- توثيق العقود وإصلاح ذات البين: وبموازاة مع أعمال التدريس والكتابة الصحفية، كان الشيخ المولود الحافظي يقوم بتحرير عقود المعاملات التجارية المختلفة، والزواج، وتحرير محاضر جلسات الصلح بين الأطراف المتخاصمة. هذا وقد تحصلت على عدد من هذه الوثائق، وهي مؤرخة مابين 1928 - 1946م. مساهمته في تأسيس جمعية العلماء المسلمين أدرك الشيخ المولود الحافظي، أهمية تأسيس جمعية للعلماء، من أجل توحيد جهودهم الإصلاحية، لذا أيّد اقتراح عبد الحميد بن باديس الوارد في العدد الثالث من جريدة الشهاب، وكتب سنة 1926م، مقالا تحسيسيا في جريدة الشهاب، بعنوان: "تأسيس حزب ديني إصلاحي" يشرح فيه كيفية تحقيق هذا المشروع الثقافي، جاء فيه على الخصوص: "... فنعم اقتراح هذا ومرحبا به نود أن يتوفق رجالنا العلماء إلى هذا من زمن بعيد، إذ حالتنا الدينية قد أصبحت في آخر نقطة من الانحطاط، وداخلتنا البدع من حيث لا نشعر منذ زمن ليس بقليل، فطال عليها العهد حتى أصبحت محل اعتقاداتها من الدين في كثير من العوام، ومحل تهاون وتقصير في كثير من العلماء، بحكم سريان القوة الغالبية من السواد الأعظم عليهم."(5) وعندما تجسد هذا المشروع على أرض الواقع في شهر ماي 1931، بظهور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، كان الشيخ المولود الحافظي ضمن الأعضاء المؤسسين. لكنه لم يلبث أن انسحب منها سنة 1932، بعد أن دب الخلاف بين الإصلاحيين والمحافظين، أدى إلى التشنيع بالزوايا وتشويه سمعة شيوخها، بأقلام بعض أعضائها المتشددين، دون مراعاة لدورها التاريخي في نشر الإسلام، وصون الشخصية الوطنية من الاندثار. وكان الشيخ المولود الحافظي يرى ضرورة إصلاح الزوايا وإنقاذها من الجمود والركود، بدل معاداتها والحط من قيمتها لدى الرأي العام. واعتبارا لمكانته الإصلاحية المرموقة التي لا يماري فيها أحد، فقد طلب منه شيوخ الزوايا ترأس جمعية علماء السنة المنشاة سنة 1932، ورحّب بالعرض لأنه كان يرى أن المجال يتسع لأكثر من جمعية، بالنظر إلى حجم التخلف الذي ران على المجتمع، وأشرف أيضا على جريدة الإخلاص، التي كانت لسان حالها. لكن الصراع حول الزعامة بين شيوخ بعض الزوايا أدى إلى إجهاض هذه المبادرة، فانسحب منها مفضلا الاستقلال بجهوده الإصلاحية، عبر الكتابة الصحفية والتعليم، والإفتاء، وترسيخ قيم المصالحة بين الأفراد، والتسامح بين المذاهب(6). وفاته انتقل الشيخ المولود الحافظي إلى رحمة الله يوم 3 فيفري 1948، اثر مرض ألزمه الفراش لمدة ستة أشهر، بسبب انتفاخ جسمه وامتلاء قدميه بالماء، هذا ولم ينف ابنه السيد العربي احتمال تسميمه من طرف الفرنسيين أثناء وجوده بمستشفى قسنطينة. وحضر جنازته جمهور غفير من الخواص والعوام، منهم الشيخ البشير إيزمران، وعلي بن حالة، والشيخ السعيد صالحي، وعبد الرحمان بن موفق، وأحمد أقروفه، وعبد الحفيظ أمقران، ومحمد الطاهر آيت علجت، وأبّنه الشيخ محمد وَاعْلِي بن الطيب. نموذج من كتابته الإصلاحية تناولت كتاباته الإصلاحية العديد من مجالات الحياة، ولعل الجديد في عصره، إشارته إلى أهمية الإعلام في نشر الفكر الإصلاحي، ونشر في هذا السياق مقالا في جريدة الشهاب، سنة 1925م بعنوان [الجرائد والإصلاح] جاء فيه قوله: "قلنا غير ما مرة إن الجرائد باللغة الوطنية خصوصا، بمثابة مدرسة عمومية تجول فيها أفكار الكتاب، وأقلام السياسة لصالح الوطن، وهي التي تُبلغ القاصي والداني الحوادث المستجدة، وهي التي تحرك الهمم إلى ميادين العمل، وهي التي ترفع برقع الخمول والجمود عن ضعفاء القلوب، وهي التي تربط رابطة التعارف والإخاء بين أفراد الشعب، وهي التي تبذر وجوب الاتحاد، وتأليف العناصر على وحدة الغاية، وهي التي تدافع عن حقوق الأمة، وتنير الفكر العام بمصالح الوطن."((7 ولعمري فإن هذا الفهم العميق لدور الصحافة في نشر الوعي، لجدير بأن يتخذ كقاعدة لأخلاقيات المهنة الإعلامية، في زماننا هذا الذي طغت فيه الدعاية،على الإعلام النزيه، خاصة في الإعلام العمومي بفضاءاته الثلاثة. الهوامش 1- محمد الصالح آيت علجت، الشيخ المولود الحافظي، حياته وآثاره، منشورات دار الكتاب، الجزائر، 1998، ص 28. 2- محمد الصالح الصديق، أعلام من المغرب العربي، ج1، موفم للنشر، الجزائر، 2000، ص 335. 3- محمد الصالح آيت علجت، المرجع المذكور، ص41. عدد القراءات : 3519 | عدد قراءات اليوم : 1 أضف إلى: * أرسل إلى صديق إلى: بريدك الإلكتروني: الرسالة: * نسخة للطباعة التعليقات (1 تعليقات سابقة): 1 - شريف : Algérie بارك الله فيك أضف تعليقك اسمك: بريدك الإلكتروني: البلد: أضف تعليقك: