دخل إضراب الأطباء شهره الثالث، ودخل إضراب المعلّمين أسبوعه الثالث، لكن لا يستطيع أحد أن يتنبّأ اليوم عما ستسفر عنه هذه العمليات الاحتجاجية. ويبقى الغموض سائدا لا بسبب الخلافات القائمة بين النقابات والوزارات، بل بسبب الانعدام الكامل للثقة بين الطرفين. فقد اعترفت وزارة التعليم مثلا، أن مطالب المعلمين مشروعة، قالت إنها مستعدة لتلبيتها، وحددت مواعيد مضبوطة لتطبيق القرارات التي أعلنت عنها من رفع الأجور وتحسين مستوى دخل المعلمين. لكن نقابات المعلمين لا تثق في الوزارة ووعودها، حيث سبق للنقابات أن عاشت وضعا مماثلا في الماضي، وقامت بإضرابات، وأعطت الوزارة وعودا، لكن الوزارة "خرجت الطريق" ولن تكون وفيّة لوعودها. ووجدت التنظيمات النقابية نفسها تتعامل مع إدارة لا تثق فيها ولا في وعودها. ومن جهتها، تتصرف الإدارة مع المضربين كمجموعات تهدد استقرار القطاع لا أكثر ولا أقل، وبالتالي فإن الإدارة لا تريد أن تحاور المضربين أو ممثليهم، بل تبحث فقط عن الطرق التي تسمح بوضع حد للإضراب. ولا تتردد الإدارة في استعمال المراوغات وكل الأساليب الملتوية، كنشر أخبار خاطئة واستعمال وسائل الإعلام العمومية لتشويه صورة المعلمين وتهديدهم بالطرد وغيرها من المبادرات التي لجأت إليها الوزارة. وبعد أن كان الخلاف يتعلق بقضايا مادية يمكن التحكم فيها والتفاوض حولها، تحول النزاع إلى قضايا معنوية لا يمكن الفصل فيها. وكانت الوزارة صاحبة الحل والربط، وكانت المحور الأساسي لكل ما يتعلق بالتربية، كما كان معترفا لها بما تتميز به المؤسسات الرسمية، من سلطة القرار وهبة الدولة. لكن تصرفها أدى إلى تبذير هذا الرأسمال، لتتحول إلى إدارة فارغة يقول أهلها كلاما متناقضا ويلجأون إلى تهديد المعلمين واستعمال أقبح الوسائل تجاههم، مثل الضغط عليهم باللجوء إلى الأولياء، والاستهزاء بهم أمام التلاميذ، وفصل أضعف الفئات من بينهم مثل المتعاقدين الذين استجابوا لنداء الإضراب. أما الأطباء، فإنهم اليوم في وضع أسوإ، لأن إضرابهم دخل شهره الثالث دون نور في الأفق. واتخذت الوزارة موقفا وكأنها تقول للأطباء: "دزّوا معاهم". واكتفت الوزارة بالتفرج، دون اتخاذ مبادرات تذكر، إلى أن تعفّن الوضع، وسقطت الثقة، وأصبح الكلام صعبا بين الطرفين. وزرنا أحد المراكز الطبية، فلم نجد إلا طبيبا واحدا يشتغل، وهو مرتبط بإدارة الصحة بعقد عمل سنوي، وراتبه لا يتجاوز إثني عشر ألف دينار... ورفض هذا الطبيب أن يكلمنا عن الإضراب، لكن لا نعرف هل أن رفضه كان بسبب تخوّفه من الطرد، أو لأنه استحى لأنه الوحيد الذي لم ينضم إلى الإضراب، أم لأنه لا يريد أن يشرح وضعيته، وهو رجل اقترب من الأربعين ومازال راتبه لا يتجاوز 12.000 دينار بعد أن درس سبع سنوات بعد البكالوريا... ولا شك أن أي بلد عادي سيتخذ موقفا حاسما تجاه المعلمين والأطباء إذا وجد نفسه أمام أزمة مثل التي تعيشها الجزائر اليوم. والموقف الحاسم لا يعني الاستجابة لمطالب المعلمين والأطباء فحسب، لأن هذه المطالب مشروعة، كما اعترفت بها الوزارة نفسها، بل إن الموقف الحاسم يفرض دراسة أوضاع الوزارات التي أصبحت تشكل عبئاً على البلاد. وبدل أن تكون الوزارة سيدة الموقف والمنبع الأساسي للحلول والمبادرات التي تضمن رفع مستوى التعليم و تحسين التكفل بالمرضى، فإن الوزارات الجزائرية أصبحت تشكل العائق الأساسي لتحقيق هذه الأهداف. وأصبح من واجب وزارة الصحة أن تداوي نفسها، ومن أولويات وزارة التربية أن تعلم نفسها، وتتعلم كيف تتعامل مع المعلمين، وما واجبها تجاههم، وما هي أحسن الطرق التي تسمح بالتكفل بالتلاميذ. ولا يمكن الخروج من الأزمة قبل أن تدرك وزارة الصحة أن الوزير الناجح ليس الوزير الذي يتحايل على الأطباء ليُفْشِل إضرابهم، بل أن واجبه يتمثل في العمل لرفع كل الهموم التي يعيشها الأطباء حتى يتمكنوا بدورهم من التكفل بالمرضى. لكن هل هذا ممكن لما نعرف أن الوزراء يتداوون في الخارج، وأن أبناءهم يدرسون في الخارج؟ إنهم لا يبالون بمرضانا ولا بأبنائنا، لأن الذي لا يمشي على الجمرة لا يعرف آلامها.