حين سألته في آخر لقاء جمعني به قبل وفاته بثلاثة أشهر: أين هو الآن الفنان التشكيلي نور الدين بوعامر؟ أجابني ببسمة حزينة، وتحد كبير: إنني هنا - رغم المرض الذي أنهكني.. موجود مع الناس الكادحين أمثالي.. ما زلت أفتش عن نفسي وفني من خلال البحث الدائم عن تقنيات تميزني فنيا.. تعود معرفتي بهذا الفنان المتمرد إلى سنة 1989.. عندما كنت ملحقا ثقافيا مكلفا بالورشات الفنية بدار الثقافة لولاية عنابة.. لقد تصادمنا في البدء... إذ كان رحمه الله سليط اللسان - باعترافه - لكن عادت الأمور إلى مجراها بعد تدخل المدير الرائع الأستاذ المحترم محمد ياسي - الذي علمني أصول واحترافية العمل الثقافي والقدرة على التواصل مع المحيط الثقافي والاجتماعي - حيث أفهمني أن بوعامر فنان جد حساس وسليط اللسان لكنه يحمل قلبا كبيرا... وبعد لقاءات عدة اكتشفت أن لبوعامر مكانة خاصة عند سي ياسي وكان يناديه "سي نور الدين".. وأفهمني صديقنا المشترك المرحوم الفنان بشير بلونيس أن بوعامر فنان انفعالي جدا بحكم طفولته القاسية. فهو عاطفي جدا، رحيم، بريء ومتأثر بالفنان العالمي فان غوغ.. ويمكنك معرفة هذه الحساسية الداخلية في مضامين لوحاته. إن إبداعاته تعكس أعماقه النقية، ففي أغلب لوحاته تحضر دوما المدينة على شكل أطلال، ويحضر ذلك الطفل الصغير، عديم الملامح، الواقف إلى جانب أمه بلباسها التقليدي.. هذا الطفل في الأساس هو "حنظلة" بوعامر، لأنه عاش جرحا نفسيا بليغا في طفولته، بعدما فقد والدته في سن 12، ولولا الرسم وانتماؤه إلى الكشافة الإسلامية لما نجا من مخالب مجتمع لا يرحم، خاصة أنه ابن حي شعبي عريق في مدينة عنابة.. قلت في البداية كان اللقاء بيننا تصادميا، لكن تحول في النهاية إلى علاقة صداقة رائعة، ولمست كنزه الإنساني المدفون خلف ذلك العنف الزائف، والقسوة المستعارة، حيث صرت أتابع منجزاته الفنية ومعارضه التشكيلية. وكان بوعامر يفضل المعارض الجماعية على المعارض الفردية، لأن في فهمه أن المعرض الجماعي يعني العطاء والمشاركة مع فنانين آخرين لهم تجارب مختلفة عن تجربته. وهذا يصنع تلاقحا ويمنح للمتلقي رحلة بصرية مدهشة ولا يحصره داخل رواق واحد أو تجربة واحدة.. بوعامر نور الدين فتى الكشافة الإسلامية وعضو جماعة "الدهليز" عمل بإخلاص وصرامة من أجل مدينته عنابة ووطنه وفنه، دوما وفي كل التجمعات واللقاءات تجده مدافعا عن الحق والجمال والخير. كان رجلا كريما، يبيع لوحاته من أجل مساعدة الآخرين.. رغم أنه يصرح في كثير من المرات - في حالة غضب - بأن المجتمع توحش وفقد إنسانيته.. عرفته عن قرب.. عرفت داخله.. عرفت هواجسه.. عرفت تجربته.. وفي كل مناسبة ألقاه فيها، أقتني بعض لوحاته، لأنني أحس بأنها قريبة مني وفيها بعض من ملامحي وطفولتي.. كنت أمزح معه دوما: أنا الذي سيحافظ على لوحاتك يا "فان غوغ" الجزائر - يا سليط اللسان - .. كان يضحك ويسلمني لوحاته دون إطار، لأنه لا يملك ثمن شراء إطارا ت لها..
بوعامر وحفيظ دراجي وأذكر أنه سنة 1996 - حين كنت مديرا عاما لديوان السياحة والثقافة بعنابة - كرمنا المعلق الرياضي التلفزيوني حفيظ دراجي في تظاهرة المهرجان الدولي للفنون القتالية. وطلبت من بوعامر إحدى لوحاته الكبيرة الطفولية كي تكون هدية له. فطلب مني مهلة أربعة أيام. وذات صباح، حملها إلي وهي مازالت تعبق برائحة الدهون، فيها ملامح امرأة كبيرة في السن.. سألته مازحا: من هذه المرأة المحظوظة التي ستسكن أحد جدران بيت دراجي؟ انفجر باكيا وأخبرني بأنها صورة أمه استحضرها من الذاكرة.. كانت لوحة جميلة جدا وكبيرة، تليق بمقام حفيظ دراجي. وحين سألته عن ثمنها، أخبرني بأنها هديته لهذا المعلق المتميز، الذي سيكون نجم الجزائر في سماء التعليق - وكانت نبوءة بوعامر صادقة - أذكر أن حفيظ دراجي تسلم هدية بوعامر على خشبة المسرح الجهوي عز الدين مجوبي على يد صديقي الفنان كمال كربوز، رحمه الله.. هل مازالت هذه اللوحة معلقة في منزل حفيظ دراجي؟ لا أدري؟؟؟
بوعامر، بشير بلونيس وفان غوغ.. بعد رحيل صديقنا المبدع بشير بلونيس أوت 2004 فقد بوعامر أهم سند معنوي كان يدعمه دوما منذ بداية البدايات.. وأثر هذا الفقدان فيه كثيرا.. اعترف لي بأنه تعلم الكثير من بلونيس الفنان والإنسان وتأثر كثيرا بلوحاته لأنها تعكس روحه، ويحس فيها بتراجيديا عنيفة وأزمة الإنسان المعاصر. قال لي بصريح العبارة ونحن عائدون من المقبرة بعد دفن الفقيد بشير بلونيس: "إن بلونيس فنان طموح عكسي تماما.. لذا وصل بالصرامة والمثابرة إلى تأسيس أسلوبه المتميز في الحركة التشكيلية الجزائرية.. لا أملك نفس تحدي وثورة بشير". وحين سألته: لمَ تحب فان غوغ؟ أجابني: لأنه عاش حياة مؤلمة وظل خالدا في التاريخ.. كانت أعماله استفزازية.. وتشبه أعمالي التي أقوم بإنجازها..
الموناليزا لوحة بوعامر الأخيرة غادرت عنابة صوب العاصمة لأبدأ مغامرة أخرى. قلّت فرص اللقاء بيني وبين بوعامر، ولكن من المستيحل أن أزور عنابة دون أن يجمعني لقاء معه، سواء في ساحة الثورة أم المسرح الجهوي، كان صديقي السينوغرافي والفنان التشكيلي ناجم شراد وصديقي سعيد العجرود يتكفلان بالبرمجة (كان بوعامر لا يملك هاتفا جوالا).. وكان حديثنا يطول حول الوضع الثقافي للمدينة وأيضا ذكرياتنا مع الفنان بشير بلونيس.. كل مرة أعود فيها من عنابة إلا وفي جعبتي الكثير من الحكايا والدموع ولوحة من دون إطار وغير مكتملة لبوعامر.. في لقائي الأخير به قلت له: يا سليط اللسان هل من لوحة جديدة؟ قال لي: لدي لوحة قديمة للموناليزا. قلت له ضاحكا: أنت تعرف. أريد إحدى لوحاتك.. قال: إن شاء الله سأنجز لك لوحة خاصة في الموعد القادم... اكتشفت بعد فوات الأوان أنه بحكم المرض الذي كان يفتك به توقف عن الرسم وكل لوحاته فقدها، كيف؟ لا أعرف؟ وتلك حكاية أخرى..
الوصية ذات صباح (السابعة إلا عشرين دقيقة) رن الهاتف.. كنت في منزل أستاذي المصور وذاكرة المسرح الجزائري: عبد العزيز لشلح بالجزائر العاصمة.. المتكلم ابن الفنان بوعامر: عمي عبد الناصر.. الوالد يعاني سكرات الموت ويرغب في رؤيتك.. بكيت كثيرا، فجع أستاذي عبد العزيز، حين وجدني في تلك الحالة، قلت له إن من يموت الآن فنان دفع ثمن تمرده في مدينة منكرة للجميل.. اتصلت هاتفيا بكل الأصدقاء.. انطلقت إلى مطار "هواري بومدين"، لكنني لم أحصل على تذكرة، كانت كل الخطوط إلى عنابة مشبعة.. بعد صلاة العصر، اتصل بي صديقي ناجم وأخبرني بأن الفقيد بوعامر تم دفنه في نفس المقبرة التي ينام فيها صديقه الراحل بشير بلونيس.. سافرت إلى جيجل وحضرت في اليوم الثالث (الفراق) كما يسمى في قاموس الجنازات.. دخلت منزله.. كان في استقبالي ابنه الصغير وزوجته الكريمة، التي تعرفت إليها في حياة بوعامر - التي ناضلت فعلا إلى جانبه وتعبت من أجل تربية الأبناء، فالفن في الجزائر يجعلك دوما محتاجا ولا يمنحك لقمة العيش إلا قليلا - كان دوما يقول لي هذا الكلام.. تحدثنا كثيرا عنه بحرقة.. أخبرتني بأنه ترك لها وصية لي وهي مختصرة جدا جدا لكنها ثقيلة جدا جدا (حمراوي حبيب شوقي..عز الدين ميهوبي.. أبنائي.. لوحاتي..) أيها القراء تقاسموها معي، أغيثوني.. إنني أختنق بها.. - حمراوي حبيب شوقي قلت للزوجة: لم يحدثني مطلقا بوعامر في حياته عن علاقته بالوزير والسفير حمراوي حبيب شوقي، ولا أعرف سر هذه الوصية، وما سأفعله أنني سأنشر المقال في إحدى الجرائد الوطنية ويكون بمثابة نداء - فهل سيتصل بي حمراوي حبيب شوقي ويكشف هذا السر؟ عز الدين ميهوبي أخبرتني بأنه قبل وفاته بشهر راسل الوزير الشاعر عز الدين ميهوبي، يشرح له وضعيته وحالته الاجتماعية، خاصة أنه ابن القطاع كفنان تشكيلي مساهم في الحركة الثقافية الجزائرية منذ السبعينيات وأيضا متقاعد كحارس من مؤسسة دار الثقافة عنابة.. وأكدت لي الزوجة أن رسالته تم تسلمها فعلا في الوزارة... فهل يسمع عز الدين ميهوبي الشاعر والوزير النداء ويرد على رسالة الفقيد بوعامر؟ أبنائي ترك بوعامر وراءه 5 أبناء، وفهمت من وصيته أنه يريد أن يضمن لهم مناصب عمل تقيهم عواصف الزمن القادم.. لا أعرف من سيقف إلى جانبهم ولكنني سأوجه نداء إلى كل من عرف الفنان التشكيلي نور الدين بوعامر، أن يقفوا إلى جانب أسرته.. لوحاتي سألت زوجته أين هي لوحات بوعامر؟؟؟ قالت لي بالحرف الواحد: بوعامر لم يترك أي لوحة في بيته، حيث أقام معرضا بالعاصمة بدعم من رئيس اتحاد الكتاب الجزائريين الشاعر يوسف شقرة. اتصلت بصديقي يوسف الذي أكد لي أنه أعاد لوحات الفنان التشكيلي زويني ولوحات بوعامر وقد تسلمها منه.. بحثنا عنها في دار الثقافة خاصة أنه أقام هناك معرضا مشتركا لكن لم نجد ولو لوحة واحدة.. فقد بوعامر نور الدين لوحاته كما فقدها ذات عمر فان غوغ.. السؤال الحذرق: أين إرث نور الدين بوعامر الفني؟ اللوحات التي بحوزتي - في حدود 14 لوحة - اقتنيتها منه طيلة فترة تعرفي إليه وسأضعها تحت تصرف العائلة أو أي مؤسسة ثقافية في أي نشاط أو معرض تكريمي يقام له..
فجيعة التكريم.. يكرم نور الدين بوعامر بمناسبة اليوم الوطني للفنان بعد مرور أربعة أيام فقط على وفاته، وهي لفتة جيدة لكل من مديرية الثقافة التي يرأسها الشاعر إدريس بوذيبة ودار الثقافة التي يرأسها الأستاذ رشيد سعيدي.. لكن ما حز في نفسي، وجعلني أعيش لحظات مؤلمة، أن أغلب المتدخلين تحدثوا عن بوعامر المتواضع والفقير.. كأنهم في محفل لجمع التبرعات، يستجدون الحضور. وأهملوا الحديث عن بوعامر الفنان المتمرد، المناضل، الذي عاش لفنه ومدينته ووطنه، لم يهادن أبدا.. أهملوا الحديث عن أسلوبه في الرسم والمدرسة التي ينتمي إليها.. وحضور المدينة بشكل لافت للانتباه في كل أعماله.. سامحهم الله.. ما أقوله لعائلة بوعامر بصوت مرتفع: ارفعوا رؤوسكم إلى السماء، فنور الدين بوعامر الفنان والإنسان والمتمرد آمن بالفن والثقافة كوسائل بديلة للتغيير ورقي المجتمع.. كان طفلا... ولم يشف أبدا من طفولته.. انظروا إلى لوحاته ستكتشفون بوعامر الحقيقي والخالص.. لنسمع كلنا نداء بوعامر.. فهو فان غوغنا الرائع... كلنا بوعامر نور الدين حين ننحاز إلى الفن والحقيقة والفضيلة.. algeria13@gmailcom