تعوّد الناس أن يترقبوا الأحداث السارة في كل موسم دراسي استجابة لتطلعات أفراد الأمة، ومسايرة لحرص الدولة على محاولة التغيير الإيجابي في بعض جوانب التعليم. ولكن الأحداث التي سيتفاجأ بها المجتمع هذه السنة أحداث غير سارة، بل هي أحداث مخيّبة للآمال، ومفجرة لدواعي الإحباط، إن الإجراءات التي تستعد الوزارة لعرضها على الحكومة وتحاول جاهدة أن تقنع المسؤولين بآرائها، هذه الإجراءات مخالفة للمبادئ التي تسير عليها السياسة التعليمية ومناقضة لتوجهات الأمة في مجال تأهيل النظام التربوي وتنمية الوعي بأهمية القواعد التي تبنى عليها أركان المدرسة وترسم رموز الهوية، ومن أهم ما تتضمنه هذه الإجراءات التي تحرص الوزارة على تنفيذها، الدعوة الصريحة إلى تغيير مبادئ السياسة القائمة في مجال التربية وقلب الأوضاع القائمة، تلك الأوضاع المجسدة لمبادئ النظام التربوي وأصول السياسة التي يلتزم بها مجتمعنا، تلك السياسة التي حظيت بإجماع واسع على المستوى الوطني، كما عبّر عن ذلك رئيس الجمهورية في خطابه الموجه لأعضاء لجنة الإصلاح عام 2000 ، إن هذا الإجماع الحاصل على مضمون مبادئ السياسة التربوية تمّ التعبير عنه منذ بداية الاستقلال، حين توجهت الدولة إلى إقامة هياكلها وشرعت في تأسيس النظام التربوي الوطني، وخلاصة هذه السياسة الحضارية والثقافية التي تعبر عن اهتمامات الأمة وتعبر عن ذاتها وتحدد وجهتها في الحياة ومن أهم ما يترجم هذه الاهتمامات هي المقومات والثوابت التي تميز شخصية كل أمة وتحدد أفكارها ورؤيتها. ونجد تلخيصا لهذه الرؤية في المبادئ التي ترتكز عليها السياسة المتبعة في مجال التربية عندنا، وهذه المبادئ هي الديمقراطية والتعريب، والتوجيه العلمي والتقني، وهي المبادئ التي حددتها الأمة لتجعلها سبيلها في النهوض بالمجتمع وفي بناء مستقبل الأجيال، وتفصيلا لروح هذه المبادئ نشير إلى أهم الجوانب المتعلقة بالمقومات التي تميز كل أمة – ما ذكر ابن باديس وهي: اللغة والعقيدة والتاريخ والشعور المشترك الذي يربط بين أفراد الأمة وبينهم وبين من يشاركهم في هذه المقومات، وتشمل هذه المقومات نظرة الأمة إلى الحياة في واقعها الآني وفي تطوراتها المستقبلية، وفي مظاهرها العملية والتكنولوجيا، هذا مضمون السياسة التربوية التي تحاول الوزارة أن تتجاوزها وتقترح ما يعارضها ويهدمها ويناقض عناصرها في المجال الديني واللغوي والتاريخي، ففي المجال الديني يتجه تفكير الوزارة إلى تهميش التربية الإسلامية في مجال التعامل، ويقترح إلغاءها من قائمة مواد الامتحان في البكالوريا أو جعلها مادة اختيارية في بعض الشعب (بينها وبين الأمازيغية)، وكذا التعامل نفسه بالنسبة إلى مادة التاريخ، فالوزارة تعتبر التاريخ مادة ثانوية، ويظهر ذلك في تخفيض المعامل الذي تعامل به، وفي الاقتراح الذي يجعل المادة التاريخية غير مدرجة ضمن قائمة المواد الإجبارية في الامتحان الموجه لطلاب البكالوريا – أما في المجال اللغوي فالأمر أخطر، لأن الوزارة تسعى إلى إبعاد اللغة العربية عن الدور الذي تؤديه وتقلل من مكانتها حين تدعو إلى ترشيح اللغة الفرنسية بدلها في تدريس المواد العلمية. إن تبني هذه الإجراءات يعد خرقا لنص الدستور وقوانين الجمهورية وتعديا على أسس النظام التربوي، غير أن الإجراء الخاص لترشيح اللغة الفرنسية لتدريس المواد العلمية لم يصرح به علنا ولم يناقش، ولكن هناك جهود جارية في مجال التحضير لتنفيذه، وما طرح في إصلاح البكالوريا يؤكد هذا، والهدف المتوخى من تغيير لغة التدريس هو إجراء تناغم بين التعليم الثانوي والتعليم العالي لحلّ مشكلة رسوب الطلاب المتكرر في بداية التعليم العالي بسبب الضعف اللغوي، ورغم الحرص الذي تبديه الوزارة في جعل اللغة الفرنسية تسترجع دورها في تدريس المواد العلمية، إلا أننا لا نرى هذا الأمر ممكنا ويمكن قبوله من الحكومة. نظرا لصعوبة التطبيق ومخالفته للخط السياسي الذي تسير عليه البلاد في مجال التربية، وكذا لا نستبعد أن يكون للحكومة موقف متحفظ تجاه هذه الاقتراحات، لأنها إن قبلتها تضع نفسها في حرج بين المبادئ التي تسير عليها رسميا، وبين هذه المواقف المضادة التي تعرض عليها. والمحلل لوضعية الوزارة يستبعد أن تتجرأ الوزيرة وتطرح الموضوع بصفة واضحة على مجلس الحكومة، لأنها لا تريد أن تتخلى عن كونها عضوا فاعلا في الحكومة، وهذه العضوية تدفعها لتكون مع المبادئ ولا تناقضها حتى ولو كانت لا تنسجم مع قناعتها الشخصية، وحرص الوزيرة على التصريح بهذا الموضوع يجعلها متناقضة مع المسؤولية التي تمارسها، والذي يضاد هذه المسؤولية يصبح تلقائيا من المعارضين لسياسة الأمة ومن الرافضين للمبادئ التي بنيت عليها السياسة، حتى ولو لم يجاهر بهذه المعارضة، والفكرة التي يجب التعليق عليها، بالإضافة إلى ما ذكر هي الاقتراح الخاص بتقليص فترة امتحان البكالوريا، الفترة المقترحة لا تحل إشكالا ولا تحسن وضعا، بل تزيد الموضوع تعقيدا، لأن الوعاء الزمني الذي يخصص لإجراء الامتحان يرتبط بالغاية من الامتحان وبالأهداف التي توجه إليها الأسئلة، ونسعى بواسطتها لقياس المستوى، ونوع الأسئلة التي يعتمد عليها في قياس مستوى المعلومات، ويرتبط بالحالة النفسية والمعرفية التي يكون عليها الطالب أو التي ينبغي أن يكون عليها في فترة الامتحان، وهذه الجوانب تستدعي أن تكون أيام الامتحان أكثر من ثلاثة أيام، بل أكثر من خمسة أيام، لأن تمديد الفترة يمكّن القائمين على التعليم من تحديد المواد التي يجب البدء بها وتحديد المدة التي يتطلبها إنجاز الاختبار الخاص بكل مادة، والمهم في كل هذا هو أننا نقترح أن يكون إجراء الامتحان في الصباح فقط، ويترك المساء (فترة ما بعد الظهر) للمراجعة والتهيؤ النفسي والراحة الفكرية ليتم الاستعداد في الفترة الموالية، لذا نرى أن تمدّد فترة الامتحان إلى أكثر من خمسة أيام، على أساس أننا ننظر إلى مواد التعليم نظرة تجعلها كلها مواد أساسية. فالمطلوب من مصممي أسئلة الامتحان أن يعدّدوا الأسئلة وينوعوها ويحددوا الصيغة الملائمة للهدف وللموضوع، لأن المطلوب أن تغطي الأسئلة أهم المعلومات التي تلقاها الطالب في الفترة التي شملها الامتحان. وقد بينت جوانب هذا الموضوع في مقال سابق، وذكرت أن الذين اقترحوا ثلاثة أيام لم يدرسوا الموضوع دراسة علمية ولم يحللوا أهدافه والمستوى المعرفي الذي تلقاه الطالب خلال فترة التعليم الثانوي كلها، وبينت أن تمديد فترة الامتحان مطبقة في بعض البلدان، وهي مفيدة للطلاب ولا تكلف الدولة - كما يعتقد- أموالا زائدة. والفكرة التي ألخص بها ما تناولته في التعليق على إجراءات الوزارة، هي أنني أشك في أن الوزيرة ستتجرأ وتقدم هذه الاقتراحات إلى الحكومة بهذه الصيغة الواضحة، كما أنني أشك في أن الحكومة ستغض الطرف وتقبل هذه الآراء التي تعرض عليها وتقدمها للمناقشة، وما ننتظره هو أن تجد الحكومة صيغة تؤجل بها مناقشة هذه الموضوعات لتخرج من الوضع الحرج، وتعلن أنها ستعرض الأمر على أهل الاختصاص وتشكل بناء على ذلك فريقا من الخبراء لدراسة جوانب الموضوع. ولعل هذا الوضع سيدفع المسؤولين في الدولة إلى التفكير في تشكيل هيأة علمية من العلماء والمفكرين ومن رجالات التربية ومن المؤمنين بقيم الأمة ومواقفها ونضالاتها، لنكوّن الإطار الموجه لوزارة التربية والمحدد للسياسة التي يجب أن تسلكها، على أن تعطى لها صلاحيات التفكير في قضايا التربية والتعليم وتطوير الأنظمة التي تسهم في ترقية القطاع والتخطيط للنهوض به، لأنه لا يجوز حضاريا أن تبقى وزارة في مستوى وزارة التربية التي تشرف على أهم قطاع في الدولة بدون أن تكون إلى جانبها هيأة أو هيئات تنير لها الطريق وتوجهها إلى ما يجب عمله، إن انعدام الهيأة الموجهة التي يرجع إليها أمر التربية هو السبب في حالات التدهور التي يعيشها قطاع التربية عندنا، وهذا هو السبب الذي جعل الوزارة ترتجل في بعض القرارات، وتتجه إلى تقديم جملة من الاقتراحات التي لم تدعمها دراسة ولم يرافقها تحليل علمي، كنا نأمل أن يتدارك المسؤولون هذا الفراغ من خلال تعديل الدستور، فينشئوا هيأة بمثابة المجلس الأعلى للتربية تكون مرجعا لتسيير قطاع التربية، وتنظيم جهوده وتقديم العون العلمي والسياسي للوزارة مثلما كان الأمر في السابق.