ميدان اللغة مثله مثل الميادين الأخرى، معركته المستقبلية ليست الكمّ بل الكيف، ليست الانتشار بل التأثير. سواء كُنَّا نتحدث عن اللغة العربية أم اللغة الأمازيغية، علينا أن ننقل حديثنا من باب الكمّ والعدد إلى باب النوع والفعالية، ولا يكفي أن تُشير الإحصائيات المختلفة إلى تقدّم اللغة العربية عن الفرنسية مثلا في مجال مستخدمي الإنترنت حتى نعتبر ذلك تقدُّما، بل علينا أن نبحث في مدى تَمكُّنها من اكتساب الفعالية واقتحام ميدان العلوم وعالم المال والأعمال. ومن هذه الزاوية بالتحديد علينا أن نقرأ الاقتراحات التي تتقدم بها وزارة التربية اليوم المتعلقة بتعليم المواد العلمية باللغة الفرنسية. ألا يدخل هذا ضمن مَنع إحدى لغاتنا الوطنية من الانتقال من عالم الانتشار إلى عالم التأثير؟ وماذا سيحصل بالنسبة إلى اللغة الأمازيغية التي بدأت منذ سنوات قليلة فقط تسترجع مكانتها إذا ما كانت هذه حال شقيقتها اللغة العربية؟ ألسنا في حاجة إلى التوقف لحظة تأمُّلٍ عميقة في هذه الحال قبل أيِّ حُكم آخر؟ بالفعل يبدو أن هناك معارك عالمية خفية بين اللغات في العالم كما هي بين الاقتصاديات والتكنولوجيات، وأن اللغات الأكثر انتشارا وتأثيرا تسعى للقضاء على الأخرى، حيث أشارت دراساتٌ لليونسكو أنه من بين 6700 لغة موجودة حالياً في العالم أغلبها سينقرض خلال العقود القادمة، وخاصة تلك التي لا يزيد عدد الناطقين بها عن 100 ألف نسمة، فما بالك أن نصف اللغات الموجودة في العالم التي يتكلمها أقل من 10 آلاف... وأمام هذا الوضع، إذا لم يكن علينا أن نخاف على اللغتين العربية والأمازيغية من الانتشار باعتبار أن الأولى تحتل المرتبة الرابعة عالميا بعد الإنجليزية والصينية والإسبانية بالنسبة إلى مستخدمي الإنترنت (الفرنسية في المرتبة التاسعة) (إحصائيات statista جوان 2016)، والثانية يتكلمها الملايين عبر كل الشمال الإفريقي، فعلينا أن نخاف على مدى فعالية اللغتين ودرجة التأثير التي تسعيان لاكتسابها. وليس من باب الأمل الزائف أن نقول إنه بإمكان سياسات وطنية في مجال التعليم والبحث العلمي والترجمة أن نتمكن في ظرف عقدين أو ثلاثة من الالتحاق والتفوُّق، فقط نحن في حاجة إلى استراتيجية لغوية وطنية متماسكة وقائمة على النظرة المستقبلية، بعيدا عن ذلك الشعور بالدونية تجاه اللغات الأجنبية، أو اليأس من الانتصار في معركة النوع بعد تجاوز عقبة الكمّ، وما وجود مجلسي اللغتين العربية والأمازيغية إلا مؤسستين لتحقيق مثل هذا الانتقال النوعي، بلا خوف من المثبِّطين ولا من أولئك المتمسكين بالإرث الاستعماري حتى وهو غير قادر على الدفاع عن نفسه حتى عبر الإنترنت.