يعدّ العرف عند أكثر الفقهاء مصدرا من مصادر التشريع التبعية، فلذلك يرددون أثناء ذكرهم للكثير من الفروع الفقهية قولهم "العادة محكمة"، ولا يصحّ أن يخالفهم أحدٌ في هذا؛ فالله سبحانه وتعالى وضع شريعة تتناسب مع البيئات المختلفة، وتحترم كل الأعراف الطيبة، ولذلك كانت صالحة لكل زمان ومكان. ولكن: ما حدود العمل بالعرف؟ وهل يمكن أن يصطدم مع الشريعة الإلهية في مجالاتها القطعية؟ وهل يمكن تبعا لذلك أن يحكِّم الناس العرف بدل الشرع؟ وهل يمكن أن يعبد الناس أعرافهم في الوقت الذي يتصورون فيه أنهم يعبدون ربهم، ويلتزمون شريعته؟ للإجابة على هذا السؤال الخطير نذكِّر بناحية مهمة لا ينبغي أن ننساها عند مناقشتنا لأي قضية، وهي "الدور الشيطاني في حياة الإنسان"، فالشيطان قد توعّد بأن يُضِلَّ بني آدم، ولذلك فوظيفته في الأرض استثمار كل السبل والوسائل التي تؤدي إلى هذا التضليل. ومن تلك الوسائل العرف، فقد استخدمه الشيطان في محاربة الأنبياء، ومواجهتهم، كما استخدمه في تحريف شرائع الأنبياء، وتحويلها من شرائع إلهية إلى شرائع بشرية. أما عمله الأول في مواجهة الأنبياء بالعرف، فيكفي في الدلالة عليه قوله تعالى على لسان قوم إبراهيم عليه السلام عندما نهاهم عن عبادة الأصنام: )بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) "الشعراء: 74"، ومثله قول قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) "الزخرف: 22"، ومثلهما جميع الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: (كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) "الزخرف: 23". مثل ذلك نجده عند حديث الفقهاء عن الكفاءة في الحرفة، فمع أن النصوص الشرعية دالة على عدم اعتبار الحرفة فارقا بين المسلمين، وأن أساس الفضل بين المؤمنين هو التقوى، إلا أنه ظهرت الكثير من الفتاوى في هذا الباب تنظر إلى الناس باعتبارات غير شرعية، بل تعطي شرعية للطبقية التي جاءت الشريعة الإلهية لمحاربتها والنهي عنها. هذا استغلال الشيطان للعرف في مواجهة الأنبياء، وقد حصل مثله أو ما لا يقل عنه في تحريف شرائع الأنبياء.. فلو درسنا تاريخ الأديان لوجدنا كيف استطاع الشيطان أن يحوّل المعتقدات التنزيهية إلى معتقدات وثنية بسبب مراعاة الدعاة لتلك الأديان لأعراف الأقوام الذين يدعونهم، ولأجل هذا تروَّمت النصرانية حينما تشرَّبت الكثير من الوثنيات الرومية. ولهذا كان على المجددين والدعاة السعي إلى تمييز الإلهي من البشري في الدين، لأنهما اختلطا اختلاطا شديدا صار من الصعب الانفكاك عنه. ولن يكفي المقام في هذا المقال المختصر أن أذكر الأمثلة والأدلة على ذلك، ولكني سأكتفي بمثال واحد بسيط يتعلق بأساس من الأسس الكبرى التي تقوم عليها الحياة الزوجية، وهو الكفاءة، والتي اعتبرها أكثر الفقهاء شرطا أساسيا في الزواج يحق بموجبه لوليّ الأمر أن يزوِّج قريبته، أو يعضلها إن لم تتوفر الكفاءة في المتقدم لها حتى لو كانت راغبة فيه. ومع أن التشريع الإلهي في هذا واضح، وهو قصر الكفاءة على الدين والخلق، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) (الترمذي: 3/ 394)، إلا أن الأحكام الفقهية التي نصّ عليها الكثير من الفقهاء، والمرتبطة بالكفاءة، والتي تراعي العرف في ذلك، تخالف مخالفة صريحة هذا النص المقدس، بل تفضل عليه شرائع جاهلية بائدة. لقد اعتبر الفقهاء النسب شرطا أساسيا في الكفاءة، فقد نقل بعضهم قول مالك: (لا تعتبر الكفاءة إلا في الدين)، واستدلاله من القرآن والسنة على ذلك، فرد عليه بقوله: (قلنا: المراد به في حكم الآخرة وكلامنا في الدنيا)، قال الشارح: (وإلا ففي الدنيا ثابتٌ فضل العربي على العجمي بالإجماع) (تبيين الحقائق:2/ 128)، ولسنا ندري أي إجماع يدعيه؟ ولا أي مستند لذلك الإجماع؟ بل الإجماع هو ما نصّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما دلّ عليه القرآن الكريم، وما أيدته قواعد الدين ومقاصده الكلية. وقد نشأ عن فتح هذا الباب العصبية المحرّمة بين العرب وغيرهم، بل بين العرب أنفسهم، بل نجد هذه العصبية قد انتقلت إلى كتب الفقه نفسها، ففي كتاب منها يقول صاحبه: (سائر العرب بعضهم أكفاء لبعض، وبنو باهلة ليسوا بأكفاء لعامة العرب؛ لأنهم يُعرَفون بالخساسة قيل: إنهم يستخرجون النقي من عظام الميتة ويأكلونه، قال الشاعر: إذا قيل للكلب يا باهلي عوى الكلب من لؤم هذا النسب (فتح القدير:3/ 298). فهؤلاء الفقهاء -مع احترامنا لهم- تركوا الأدلة الصريحة الصحيحة لقول شاعر، ويمكنهم لو ساروا على منواله أن يهجوا القبائل جميعا، بل الخلق جميعا. ونجد فقيها آخر يفضِّل الجاهلة بنت العالم على العالم ابن الجاهل، ويصرح بذلك بقوله: (العالم ابن الجاهل ليس كفئا للجاهلة بنت العالم) (شرح البهجة:4/ 125). وهذا الخروج عن القواعد الشرعية في الأنساب نجده عند الاباضية، في التفريق بين البدو والحضر، ففي شرح النيل: (وحرم على بدوية تزوجت حضريا أن تتزوج بدويا بعده إن طلقها أو مات أو حرمت عنه أو فارقها بوجهٍ ما، لأنها قد صارت حضرية بتزوُّج الحضري، وإن فعلت هلكت) (شرح النيل:6/ 118). ومثل ذلك نجده عند حديث الفقهاء عن الكفاءة في الحرفة، فمع أن النصوص الشرعية دالة على عدم اعتبار الحرفة فارقا بين المسلمين، وأن أساس الفضل بين المؤمنين هو التقوى، إلا أنه ظهرت الكثير من الفتاوى في هذا الباب تنظر إلى الناس باعتبارات غير شرعية، بل تعطي شرعية للطبقية التي جاءت الشريعة الإلهية لمحاربتها والنهي عنها، وسنذكر هنا بعض الأمثلة عن آراء الفقهاء القائلين بالكفاءة في الحرفة وفتاواهم، ولنتأمل أثر مثل هذه الفتاوى وخطورتها النفسية والاجتماعية، ونقارن ذلك بما دعا إليه الإسلام بالنصوص القطعية واعتبره أصلا من أصوله، وقد تحرّجت كثيرا من نقل مثل هذه الفتاوى، ولولا ضرورة التوثيق ما وثقتها: سُئل بعضهم عن تاجر قمح يقرأ بعض القرآن زوّج ابنته لرجل شلبي طحان، فهل الزوج كفء لها وهل العقد صحيح أو لا؟ فأجاب بهذه الصراحة: (أنه ليس الزوج كفء الزوجة ونكاحها باطل) (فتاوى الرملي:3/ 159)، وليس ذلك لأجل القرآن، لأن القرآن ليس حرفة، وإنما لأجل التجارة. ولم يكتف هؤلاء بحرفته فقط بل عمموا ذلك إلى حرفة آبائه فلا تزال تنزل عليه لعناتها، فلذلك قالوا: (حرفة فيه أو في أحد من آبائه وهي ما يتحرف به لطلب الرزق من الصنائع وغيرها) (تحفة المحتاج:7/ 281). هذه مجرد نماذج عن دور العرف في الانحراف بالمفاهيم الشرعية، وإشاعة الطبقية والعنصرية في المجتمع، والأمثلة على تأثيراته في المجالات الأخرى أكبر من أن نحصيها في هذا المقال المختصر.