تعدّ السجون في أغلب التقارير الأمنية وحتى الاستراتيجية هي المدارس التي يتخرج منها المتطرفون والإرهابيون والمتشددون الإسلاميون وحتى كبار مجرمي الحق العام أيضا، بحكم اعتبارات كثيرة ومختلفة كلها تصب في إطار الفضاء الذي يتيحه الإعتقال من الإحتكاك والتواصل والتقارب والتعارف. * وقد وقعت أحداث مختلفة وقف وراءها أولئك الذين قضوا سنوات عديدة في الزنازين بينها عمليات انتحارية وأخرى محاولات فردية لإحياء عظام جماعات بائدة أو الالتحاق بمعاقل الجماعات المسلحة. بل أن السلطات الأمنية الجزائرية ومنذ مطلع التسعينيات اهتمت كثيرا بما يجري في السجون وخاصة بعد عملية فرار سجن لامبيز الشهير في رمضان 1994. ومن خلال تجربتي الشخصية التي امتدت على مدار اشهر عايشت فيها عينة من الإسلاميين وبمختلف مراتبهم وغلوهم وانتماءاتهم، أرى من الضرورة إعطاء صورة واضحة ومن الداخل وليس من متابع يرى الأمور عن كثب أو يستوحيها من شهادات متناثرة هنا وهناك وعبر وسائل إعلام تحكمها أجندات معينة، لتتضح معالم ما يجري في تلك الدهاليز المظلمة المسماة في دفاترهم "المدرسة اليوسفية" نسبة للنبي يوسف الصديق (عليه السلام)، والتي تظل دوما بعيدة عن أعين المختصين من علماء نفسانيين ورجال دين وأمنيين ومفكرين. * ومهما كانت التحاليل والمتابعات التي تجري بناء على اعترافات تأتي على ألسنة من عايشوا ذلك الظلام الدامس، فلن تصل مصداقيتها إلى درجة شهادة تأتي من قلم باحث ومتابع للشأن الأمني ولتطورات الجماعات الإسلامية، يكون قد عايشهم من الداخل وأجرى الكثير من التجارب وحاول في الآن نفسه أن يلم بما يقدر عليه من معلومات تأتي من طرف أعضاء فاعلين في المشهد المسلح، بل يوجد من عايش أحداثا شهيرة أسالت الحبر وصنعت المد والجزر في الساحة الدولية. * * عندما تحك جلدها دولة الإسلاميين وراء القضبان * يعيش الإرهابيون ممن يطلق عليهم في بعض وسائل الإعلام مصطلحا فضفاضا تتجاذبه الحسابات المختلفة وهو "الإسلاميون"، في السجون العربية كلها ومن غير استثناء أو حتى في السجون الغربية على طريقتهم الخاصة التي يرسمون معالمها من مراجع ومتناقضات مختلفة، وأخرى يستوحونها من خلال مصادرهم وفتاويهم الداخلية والتي تأتي ممن هم على دينهم، وليس من قبل العلماء المشهود لهم بالعلم والمعرفة. فهم يبنون ما يسمونها ب "الدولة الإسلامية" وفق رؤاهم ومعتقداتهم الخاصة والحصرية عليهم، ويحكمون أفكارهم التي ناضلوا ولقنوا بها سواء في المساجد خلال فترة التسعينيات وما قبلها أو في المخيمات التي ينظمونها بصفة دورية في ظل حرية مطلقة. وأول ما يتبادر لذهن المتابع وهو يتأمل مسيرتهم التي لا تختلف عما عايشوه في أدغال الجبال أنهم يحاولون التميز وصناعة مجتمعا ينشدونه وينظّرون له من خلال كتبهم أو حتى دروسهم ومنتدياتهم في كل مكان، بل جعلوا من دولة الإسلام الأولى -حسب اعتقادهم طبعا- هي النموذج الذي من خلاله يريدون حكم الأمة وإعلان الخلافة المنشودة والتقرب من الله بالحاكمية المطلقة. هكذا يبررون حياتهم التي هي عبارة عن ركام من الألغاز والطلاسم والخرافات والغيبيات والرؤى المتشابكة، مما لا يمكن فك شفرتها بسهولة تامة إلا بالصبر والتجلد وتحمل عقليات أقل ما يقال فيها إنها بدوية تقزم الإسلام في إطار العنف وفتاوى خارقة وتفاسير للنصوص الشرعية على هوى النفوس الناقمة على الوضع أو المتحسرة على أشياء فاتت ومضت، وليس من المنطقي البكاء على أطلالها وفق نواح الرصاص والدم... * الدخول إلى هذه "الإمارة" التي يرونها وفق مقاييسهم ومعاييرهم غير الواضحة "دولة" أو ربما "خلافة" غير معلنة ليس بالأمر الهين ولا هو في متناول كل من هب ودب، فهو يقتضي شروطا وقناعات والتزامات وشكليات وأطر وأسس ومعطيات، أهمها الإيمان بمشروعهم العقائدي المتمثل في تحقيق الدولة الإسلامية، والتصرف وفق قوانين وضوابط يرونها مستمدة من صميم الشرع ووفق مذهب السلف الصالح، ثم الظهور أيضا بالمظهر الذي يقدسونه إلى حد قد يعرض من يشكك فيه ولو من باب المزاح إلى ما لا يحمد عقباه من التكفير والتعزير... لمعرفة حقيقة هذا الواقع، آثرنا أن ندخل هذا الحصن المنيع وهذه التربة المحظورة من خلال بوابة أتيحت لنا بعدما أجبرنا على ما لا نرضاه. وأيضا من خلال مساجين سابقين استطعنا أن نلتقي بهم ويحدثوننا عن تجاربهم وسط هؤلاء الذين لا يعرف عامة الناس حقيقتهم وواقعهم، وحتى حراس سجون آثروا الحديث إلينا في غياب الحذر الذي يفسد على الباحث آفاقه وترتيباته، وسوف نأخذ نموذجا على سبيل الاستدلال فقط حتى تتضح هذه الصورة ألا وهو جناح الإسلاميين بسجن الحراش (الجزائر العاصمة). * إدارة السجون على مستوى التراب الجزائري وفي السجون العربية الأخرى أيضا، بل الأمر يعمل به في السجون الغربية لما يتعلق الأمر بالمتهمين في قضايا الإرهاب، نجدها تخصص للإرهابيين أجنحة خاصة بهم حسب كثافتهم، وتمنع مساجين الحق العام من الاختلاط بهم أو التواصل معهم مهما كان نوعه، وقد برره لنا أحد الأطباء النفسانيين بسجن البليدة مختصرا الأمر في سببين أساسيين: * الأول: هو حماية مساجين الحق العام من الأفكار المتطرفة والضالة والتي قد تدفعهم إلى الالتحاق بالعمل المسلح، وخاصة أن أغلبهم أميون ومستواهم الدراسي والعلمي محدود للغاية، وأكثر من ذلك يوجد بينهم من يعيش في ظروف اجتماعية مزرية قد تدفعه إلى السقوط في شباك جريمة من طراز آخر، بعدما تورط في قضايا متعارف عليها كالسرقة أو الضرب أو متاجرة واستهلاك المخدرات أو الرشوة... الخ. * الثاني: هو تركهم يحتكون أكثر ببعضهم البعض مما يخلق النعرات والاختلافات والصراعات الموجودة بذورها فيما بينهم، وهذا ما يخدم مشروع الدولة في مكافحة الإرهاب وتفكيك الخلفية الفكرية والاجتماعية لهؤلاء. فاحتكاكهم ببعضهم البعض وفي ظل محيط السجن الضيق يكشف الكثير من المعطيات التي تساعد في إنقاذ بعضهم من براثن التطرف والغلو والإرهاب. * وأضاف ضابط من الإدارة العامة للسجون سببا آخر: * الثالث: تشديد مراقبتهم ولأهاليهم أيضا، خاصة أن كل السجون تخصص لهم يوما مستقلا للزيارة، فكثيرا ما انكشفت أمور ساعدت مصالح الأمن فب القضاء على جماعات إسناد أو حتى مسلحين، بل أحبطت عمليات دموية كانت تستهدف المناطق الآمنة. * أما أحد الضباط السابقين في الأمن ومختصا في هذا المجال فقد أضاف بدوره مبررا جديدا: * رابعا: أن وضع الإرهابيين والإسلاميين عموما في جناح خاص يسهل اختراقهم من الداخل عن طريق إيداع عملاء محترفين ولديهم مستوى كبير من الذكاء والنباهة وتحصيل لائق في العلوم الشرعية، حيث يؤدون دورهم في محاولة تمرير الفكر المعتدل بالرد على حجج التطرف والغلو والتكفير التي تردد في مجالسهم وحلقاتهم العلمية النشيطة في الزنازين والقاعات. وأيضا يساهم في مراقبة سلوكاتهم وتقييمها بما يخدم مشروع مكافحة الإرهاب وحتى إجراءات العفو التي درجت عليها الدولة منذ قوانين الرحمة إلى ميثاق السلم والمصالحة الوطنية. * ليضيف محدثنا أن هذا الاختراق لعب دوره في زعزعة الثقة بين هذه التنظيمات وتقويض حجج التكفيريين، مما ساعد في تفكيك بنيتها الداخلية، وهو الأمر الذي أوصل في نهاية المطاف إلى السيطرة على الوضع الأمني والقضاء كلية على ما تبقى من شبكات الجماعات الدموية. * كما ذكرنا أن الإسلاميين يعيشون مستقلين في أجنحة خاصة بهم، ويطلق على جناحهم عبر إدارات السجون ب "الجناح الخاص" أو "جناح القانون الخاص"، أما على مستوى المديرية العامة لإدارة السجون فتسميه "جناح الإرهاب"، وإن كان الإسلاميون يفضلون تسميته بجناح "القضية الإسلامية". وبحكم ما جمعناه من معلومات من الذين تحدثنا إليهم والواقع الذي عايشناه، فالإسلاميون يعيشون بالأفكار والطريقة نفسها عبر كامل السجون. * الضابط عبيد، وهو متخرج من الجامعة الإسلامية بالجزائر العاصمة، اشتغل معهم لسنوات طويلة، أرجع ذلك لعدة أسباب من بينها تحويل المساجين من سجن لآخر وكذلك ما توارثوه منذ سنوات الثمانينيات عبر أجيال مختلفة، فضلا عن مساهمة الأفغان العرب في بلورة بعض التصورات والضوابط. وإن كانت مثلا في سجن سركاجي (العاصمة) أو لامبيز (باتنة) توجد زنزانات وليست قاعات كما هو الشأن في سجن الحراش حيث يتاح التعامل بين عدد أكثر بحكم أن القاعة الواحدة لا يقل عدد نزلائها عن الخمسين، وفي أوقات أطول حيث ما يقارب العشرين ساعة يقضونها داخل القاعات. إلا أن الضوابط التي يسمونها "شرعية" ويتباهون بها كثيرا هي نفسها لم تتغير بل تخضع لمعيار ومقياس واحد، يسير وفق منهج الجماعات المرابطة في الجبال والتي نقلت للسجون أيضا وإن كان آخرون يرون أن تجربة الحياة في السجون هي التي جسدت في الجبال بحكم أن الأولى سبقت الثانية. فالعمل المسلح بدأ في التسعينيات بغض النظر عن تجربة مصطفى بويعلي في الجزائر وأخرى في دول عربية مختلفة، أما حياة السجون فسبقتها بسنوات طويلة حيث ظلت المعيار الذي تقيس به بعض الحركات وعلى رأسها الإخوان مدى تحديها لقوى القمع والأنظمة. * ومنه ندرك أن ما تعيشه الجماعات الإرهابية في مغاراتها بالجبال، هو صورة طبق الأصل لما وجدناه ولا يزال ساري المفعول في السجون، وإن كانت الحياة في الغابات والأحراش والمغارات والكهوف تختلف بحكم السلاح والمعارك والهروب من مكان لآخر خوفا من الموت والقصف والتمشيط، أما السجن فيغلب عليه طابع الاستقرار والأمن.