منذ عهد الرئيس الراحل هواري بومدين تكونت لدي حساسية مفرطة من كل ما هو ملتقى، ندوة، لقاء، مؤتمر، اجتماع... لا سيما إن كان "دوليا"! على غرار "منتدى" وهران الأخير! * وأغلب الظن أن مصدر هذه الحساسية يكمن في رفض عميق، لكل ما له صلة ما ب "جنون العظمة" وعواقبه الوخيمة، بشأن القط الذي يتنمّر، والضفدع التي تريد أن تصبح بقرة! مثلا أقدمت الجزائر على تنظيم هذا التجمع الدولي الضخم حول الغاز الطبيعي المميع مرتين، هذه السنة وفي سنة 1974، متساوية في ذلك مع دولة عظمى مثل فرنسا، ولم تسبقتها في ذلك غير الدولة الأعظم: الولاياتالمتحدةالأمريكية التي استضافت "زردة الغاز" ثلاث مرات وسبقت الجزائر في هذا المضمار دول عظمى مثل اليابان وألمانيا وبريطانيا التي استضافت التجمع مرة واحدة فقط، كما بزت دولا أغنى منها أقنعت باستضافة المناسبة مرة واحدة مثل إسبانيا وكوريا (الجنوبية) وأستراليا وأندونيسيا وماليزيا وقطر. * وقد يحاجج البعض بأن الجزائر زرّدت مرتين لأنها "دولة غازية هامة" وهذه الحجة مردودة على أصحابها سلفا، لأن هناك دولا أهم في نفس المجال -مثل روسيا والنرويج- لم تزرّد ولا مرة! * وهناك عامل ثان في نشأة هذه الحساسية: الغيرة المفرطة على المال العام الذي يكتسي نوعا من القداسة في بلد فقير وإن كان غنيا بثرواته الكامنة، بحاجة إلى أي دينار لبناء استقلال استعاده بتضحيات جسيمة، عبر ثورة تحرير عملاقة رفعت شأن الجزائر دولة وشعبا إلى عليين. * وهذه الغيرة بالذات هي التي تجعلنا نتألم ونتأسف، لما يطال المال العام من تبذير -وتحويل!- في مثل هذه الزّرد العظمى ومظاهر التبذير في زردة وهران سافرة صارخة، مثل الكلفة الإجمالية التي تزيد عن مليار دولار، ومثل النزلين العائمين اللذين لا ندري من أقام بهما بعد تعذر مجيء العديد من المدعوين بسبب بركان إيسلندا!. * وتحز الغيرة على المال العام في نفوسنا أكثر -وأعمق!- عندما نقارن زرد الرئيس الراحل وزرد الرئيس الراهن. فزرد الأول كانت أكثر تواضعا، ولها ما يبررها إلى حد ما لارتباطها باستراتيجية تنمية شاملة، وبالطموح المشروع الذي كان معلقا على هذه الاستراتيجية الواعدة.. أما زرد الراهن فهي أكثر مثارة للأسى والغبن، لأنها أكثر فخامة وضخامة، ولا تجد ما يبررها في أية استراتيجية، لتخبط الجزائر في "استراتيجية التدمير الذاتي" منذ نحو ثلاثة عقود! * وهناك إجماع واسع اليوم بين خبراء الاقتصاد والاستراتيجيات الإنمائية، بأن الجزائر تراجعت عن استراتيجية بومدين، دون أن تجد لنفسها مخرجا في استراتيجية بديلة، تصحح نقائص الأولى وتعمق وترسخ منجزاتها وإيجابياتها. وخيبة هؤلاء الخبراء كبيرة في الرئيس الحالي الذي كان المتعاطفون معه يضفون عليه مثل هذا البرنوس البديل.. لأنه -كما يزعمون- "كانت له مآخذ على استراتيجية مسؤوله السابق" وكنا نمنّي النفس بأن هذه المآخذ تكون قد تطورت -خلال فترة التهميش والتأمل في صحراء العرب!- إلى استراتيجية بديلة بأتم معنى الكلمة، وأن الرجل سيعود جاهزا للشروع في إنجازها وإخراج الجزائر بذلك من مسلسل التدمير الذاتي الذي تتخبط فيه -عمليا- منذ مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم. * ومن الطبيعي في هذا السياق أن تضاعف زردة وهران من خيبة الخائبين وأسف الآسفين وغيرة الغيورين على المال العام، لأنها في مجمل مظاهرها تأكيد بليغ لغياب أية استراتيجية بديلة جدية.. فقد تناقلت بعض الصحف المحلية مثلا تعليقا على هامش الزردة لخبير دولي، مفاده أن "النتائج المتواضعة للندوة ال 16 للغاز المميع تعود إلى غياب تصور واضح للاستراتيجية الطاقوية في البلاد".. وهذا شاهد آخر على غياب استراتيجية عامة، لأنه ليس هناك فرع بدون أصل. فأين الاستراتيجية الأصل حتى يكون لها فروع في الطاقة وغير الطاقة؟! * وقد بصرتنا هذه الزردة بمدى عشوائية الاستثمار بدون استراتيجية بعيدة المدى، على غرار المنشآت التي نحن بصدد إنجازها في كل من سكيكدة وأرزيو، بهدف تمييع مزيد من الغاز الموجه للسوق الأمريكية، علما أن هذه السوق باتت تعاني من التخمة، إثر اكتشاف ارتفاع الاحتياطي الأمريكي، واختيار الرئيس أوباما المتمثل في تطوير إنتاج الغازات البديلة، دون أن ننسى الفائض الكبير للعرض في الأسواق الحرة وتراجع الأسعار بسبب ذلك... * أبعد كل هذا.. يمكن أن نسأل عن علاقة نتائج الزردة الأخيرة بتكاليفها؟!