لا تقلع الطائرة إلا بترخيص منهم، هدفهم ضمان سلامة وأمن المسافرين، الخطأ لديهم ممنوع، وأي خلل تقني يكلفهم السجن عشرات السنين، يعملون من دون انقطاع في ورشات تشبه خلايا النحل، يعتبرون جنود الخفاء في شركة الخطوط الجوية الجزائرية، إنهم المهندسون والأعوان التقنيون المختصون في صيانة الطائرات. "الشروق" رافقتهم في عملهم الدقيق في أكبر ورشة لصيانة الطائرات وعتاد الطيران في إفريقيا، وعادت بحقائق مثيرة عن هذا العالم المجهول لدى المسافرين. قصدنا مطار هواري بومدين الداخلي بعد حصولنا على ترخيص من شركة الخطوط الجوية الجزائرية للقيام بروبورتاج حول مهندسي الصيانة، الذين لم نكن نعلم عنهم شيئا وكنا نعتقد أنهم مجرد أعوان تلقوا تكوينا في ميكانيك الطائرات لفحصها عند الإقلاع والهبوط لا غير، إلا أننا فوجئنا بأن الأمر أكثر تعقيدا ويحتاج إلى كفاءات لا يستهان بها تلقت تكوينها بالخارج، كما وقفنا على عالم واسع وثري يحمل الكثير من الإثارة والتشويق.
الصيانة سبب تأخر الرحلات وعلى المسافرين التفهم أكّد محمد سليم زيواش، رئيس قسم صيانة الطائرات وعتاد الطيران أنّ قسم الصيانة في شركة الخطوط الجوية الجزائرية من أهم الأقسام، باعتباره المشرف على كل كبيرة وصغيرة في الطائرة. ويشمل مجموعة من الفروع، في مقدمتها صيانة الطائرات، صيانة المحركات، صيانة المعدات، فحص الطائرة قبل الإقلاع وبعد الهبوط، الإمدادات، وقسم دهن الطائرات ويضم 1200 موظف إداري وتقني. وأوضح زيواش أن هدفهم هو ضمان أمن وسلامة المسافرين، وهذا ما يجهله هؤلاء المتذمرون من تأخر بعض الرحلات، فالتقنيون لا يسمحون بإقلاع الطائرة لمجرّد الشك في وجود عطب وذلك حفاظا على أرواح المسافرين.
600 مهندس وعون تقني مجندون 24/24 سا رافقنا مهدي زموري، مدير الصيانة إلى الورشات، وبمجرد وقوفنا في أعلى ورشة صيانة الطائرات بدت لنا وكأنها خلية نحل، الكل منهمك في عمله بين ذهاب ومجيء، طائرات نزعت كل قطع غيارها وتقنيون يتواجدون خارج وداخل الطائرة للوقوف على كل كبيرة وصغيرة. ونحن نراقب عمل المهندسين والأعوان التقنيين كان مدير الصيانة يشرح لنا عملهم قائلا إنهم يعملون من دون انقطاع طيلة 24 ساعة وفق مجموعات في سبيل ضمان الصيانة الشاملة لكل قطع وأجزاء الطائرة، التي تنقسم إلى صيانة خفيفة كل 500 ساعة وصيانة ثقيلة كل 5000 ساعة، أما الصيانة الدورية فيقوم بها المهندسون والتقنيون على مستوى أرضية الإقلاع قبل وبعد هبوط الطائرة، كاشفا أنه تتم صيانة 300 طائرة سنويا صيانة خفيفة، أما الصيانة الثقيلة فتشمل نحو 80 طائرة، بعضها ينتمي إلى شركة الخطوط الجوية الجزائرية وبعضها الآخر للزبائن من شركات أخرى.
إقلاع الطائرة رهن إشارة المهندسين يعمل المهندسون التقنيون في صيانة الطائرات وفق الدفتر الخاص الذي يشمل برنامج الطائرة وكل قطعها والخاص بكل نوع من أنواع الطائرات. كما يملك المهندس دفترا خاصا يسجل فيه كل قطعة تم إصلاحها وفق الرمز الذي تحمله وتاريخ التصليح واسم المهندس الذي قام بذلك، مؤكدا أنه "لا يمكن لأي كان التدخل في عمل المهندس، فإذا لم يمنح الضوء الأخضر لإقلاع الطائرة فإن الأمر لا يتم، لذلك لا يمكن لأحد فرض الموافقة عليه حتى لو كان مسؤوله الأول، فهو الوحيد الأدرى بحجم العطب أو الخلل الموجود الذي يمكن أن يودي بأرواح المئات من المسافرين، لذا لا يمكن التلاعب في هذا الموضوع". وأوضح المتحدث ذاته أنه في حال لم يضع المهندس ختمه على وثيقة الإقلاع فلن تقلع الطائرة، مشيرا إلى أن كل مهندس محترف يملك ختما خاصا به ورقما معينا يخصه من دون سواه.
أبسط خطأ يكلفنا السجن عشرات السنين نزلنا إلى الورشة، حيث تجرى عمليات الصيانة والتقينا عددا من المهندسين والتقنيين. دخلنا طائرة بوينغ والتحقنا بقمرة القيادة، حيث كان "ديلاب وزار" بصدد تفقد الأزرار وهو مهندس صيانة يعمل بهذا المجال منذ 22 سنة. قال إنه شعر في أول يوم برهبة كبيرة، ليس بسبب الأزرار المعقدة أو قطع الغيار الصعبة الفهم، لكن بسبب الإحساس بثقل المسؤولية فأرواح المسافرين بين أيدينا، وأي خطأ قد يؤدي إلى كارثة حقيقية، مضيفا بقوله: "لا يمكننا التلاعب بأرواح المسافرين، وفي حال راودنا أدنى شك لا نسمح بإقلاع الطائرة". وأكد محدثنا أن هدفهم الأسمى هو الحفاظ على أرواح وسلامة المسافرين بقوله:"لا نفكر تجاريا، بل تهمنا أرواح المسافرين، ونضعها هدفنا الأول أثناء عملية الصيانة". ونظرا إلى حجم المسؤولية التي يحملها مهندسو الصيانة على عاتقهم لا يمكن التسامح أو التساهل معهم في أي خطأ أو خلل تقني قد يؤدي إلى كارثة، كما يعاقب المهندس الذي منح الموافقة على الإقلاع بالحبس لعشرات السنين، بعد توقيفه من العمل وفق المرسوم التنفيذي 06/98 بالجريدة الرسمية حسبما صرح لنا به المهندس ديلاب. ورغم الخبرة الطويلة في الميدان إلا أن الخوف من الوقوع في الخطإ يتملك المهندسين دوما أمام ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقهم.
لا يحق لنا الصيانة من دون الاستعانة بدفتر الصانع أخبرنا ديلاب أنه لا يحق لأي مهندس صيانة أي قطعة أو محاولة إصلاح عطب ما، من دون العودة إلى دفتر الصيانة الخاص الذي بحوزتهم من قبل المصنع، وإذا لم يتمكنوا من إصلاح العطب وفق الإجراءات والخطوات التي يضمها الدفتر لا يمكنهم التصرف من تلقاء أنفسهم بل يتصلون بالشركة الأم أو صانع الطائرة، ويقترحون عليه في بعض الأحيان بعض الحلول، وإذا منحهم هذا الأخير الموافقة يقومون بها وإلا يعطيهم أفكارا أخرى تكون الأصلح في حالة العطب الذي يصادفهم. أما عبد الحفيظ قاضي، الذي يملك خبرة 34 سنة، فقال إن أرواح نحو 200 مسافر تكون بين أيديهم أثناء إصلاحهم عطبا ما، لذا لا يمكن التهاون والشعور بثقل هذه المسؤولية يكون نصب أعينهم خلال عملهم اليومي.
مراقبون دوليون يقصدون الورشة كل عام تستقبل الورشة مراقبين من وزارة النقل بشكل دوري كما يقوم بزيارتها سنويا مراقبون دوليون من مختلف الدول التي تحط بها الطائرات القادمة من الجزائر، يقف فيها المراقبون على عمل المهندسين ويسجلون ملاحظاتهم عن كل كبيرة وصغيرة تتم في عملية الصيانة. وأشار مدير الصيانة إلى أن المراقبين الدوليين أبدوا عديد المرات إعجابهم بالعمل المنضبط لمهندسي الصيانة التابعين لشركة الخطوط الجوية الجزائرية، الذين لا يقومون بصيانة الطائرات الخاصة بالشركة فقط، بل بعديد الشركات الأجنبية الأخرى التي تستعين بخبرتهم في فحص وصيانة طائراتها بشكل دوري.
أصغر قطعة غيار للطائرة لا تقل عن 2000 دولار تكلف عملية الصيانة، حسب تصريحات رئيس قسم الصيانة محمد سليم زيواش، سنويا ما بين 5 ملايير دج و10 ملايير دج. واستنادا إلى ذات المصدر، فإن العملية كلفت العام الفارط 6.5 ملايير دج. ونحن نراقب عمل المهندسين لاحظنا قطع غيار مهترئة وضعت على الجانب وكذا بعض البراغي والصفائح، التي سألنا عنها مدير الصيانة فأجاب بأنها قطع تالفة لا تصلح لإعادة الاستعمال، وهو ما يكلّف الشركة تكاليف باهظة، حيث إن أصغر قطعة يبلغ سعرها 2000 دولار، أما البرغي وحده فيقدر ب 200 دولار، مؤكدا اقتناءها من الشركة الأم أي المصنّع الأصلي، ولا يسمح بالتلاعب أو التقشف في الأمر، فالمهندس صاحب الكلمة الأخيرة. لذا أوضح محدثنا أنه في حال اكتشف قائد الطائرة خللا تقنيا نطلب منه العودة إلى الجزائر لإصلاحه، لأنه إذا دخل دولة أخرى سيكلفنا ذلك باهظا وسنضطر إلى إرسال المهندسين الخاصين بنا.
تغيير المحرك الواحد للطائرة ب 20 مليون دولار انتقلنا رفقة مدير الصيانة إلى ورشة صيانة المحركات التي تعتبر من أهم الأقسام إذا لم نقل أهمها على الإطلاق، باعتبار أن المحرك يعتبر القطعة الرئيسة في حركة الطائرة، وكان في استقبالنا يحيى إدريس، رئيس مصلحة صيانة المحركات، الذي رافقنا في كل أركان الورشة مقدما لنا شروحات عن المحركات. هذه الأخيرة ذهلنا لشكلها الذي كان يحمل الكثير من الأجزاء الصغيرة داخله، فضلا عن كبر حجمها. وقال لنا إدريس إنها محركات نصفها أمريكي وأخرى فرنسية تخضع لصيانة دورية، وكذا صيانة ثقيلة حيث يفتح المحرك كليا لفحصه من الداخل وهذه العملية تتم كل أربع سنوات، ويمكن تغييره في حال تم اكتشاف أنه لن يصلح لاستعماله في الطائرة مرة أخرى فقد يؤدي إلى كارثة، وتقدر تكلفة المحرك الكبير ب20 مليون دولار، موضحا أنه لا يمكن الاستمرار بنفس المحرك طوال فترة حياة الطائرة، كما يتقيد مهندسو صيانة المحركات أيضا بدفتر إرشادات يقدمه صانع المحرك.
أجهزة إشعاعية لفحص المحركات وهيكل لاختبارها قبل التركيب ونحن نجول في أركان ورشة صيانة المحركات رفقة رئيس المصلحة لفت انتباهنا أحد المهندسين، الذي كان يمسك بمنظار رفيع وشاشة صغيرة تشبه إلى حد كبير المنظار الذي يستعمل في العمليات الجراحية، فأخبرنا إدريس بأن هذا الجهاز يمكن المهندس من فحص كل قطعة وجزء في المحرك، دون الاضطرار إلى فتحه كليا وإعادة تركيبه وهي عملية صعبة جدا ومعقدة وتتطلّب الكثير من الوقت، لذا وفر هذا الجهاز عليهم الجهد والوقت، موضحا أنه بعد الانتهاء من الفحص والصيانة الشاملة للمحرك لا يوضع مباشرة في الطائرة، بل يخضع لاختبار في هيكل خاص وكأنهم أعادوا تركيبه في الطائرة للتأكد من جاهزيته للإقلاع مرة أخرى.
الخبرة مطلوبة والرقابة مفروضة كشف محدثنا أن كل مهندس تقني لا يحق له لمس أي قطعة من الطائرة إذا لم يتحصل على رخصة تسمى "إجازة صيانة الطائرة"، وكل مهندس يملك إجازة لصيانة نوع أو نوعين من الطائرات ولا يحق له الاقتراب من الأنواع الأخرى، وتمنح لهم هذه الرخصة من مديرية الطيران المدني والأرصاد الجوية صالحة لمدة عامين تجدّد بمجرد نهاية تاريخ صلاحيتها. كما أضاف أن كل مهندس يرافقه مراقب يدوّن تحركاته وحقيقة إصلاحه للعطب كاملا، حيث إنه توجد أعطاب تتطلب شهرين، يجب أن يحرص المراقب على تتبع خطوات المهندس خلال مدة عمله.
هكذا يتم توظيف مهندسي وتقنيي الصيانة "لا يمكن توظيف مهندس صيانة الطائرات قبل أن يتلقى تربصا تطبيقيا في الورشات لمدة تتراوح من عام إلى عامين"، هكذا تحدّث زموري عن كيفية توظيف مهندسي وتقنيي الصيانة، مضيفا أنه يشترط فيهم الحصول على مستوى جامعي في كلية الطيران ليخضعوا بعدها لتأهيل من قبل أجانب من جنسيات أوربية مختلفة، حسب نوع الطائرة لمدة شهر ونصف، كما يتلقى بعضهم تكوينا في الخارج لدراسة تطبيقية ونظرية حول الطائرة، وبعدها يخضعون لتربص كمساعدين رفقة المهندسين المحترفين قبل أن يتحولوا إلى مهندسين. وكشف محدثنا أن تكوين المهندسين في الخارج يتطلب تكاليف باهظة تقدر بمليوني دولار، وهي التكاليف التي لا تبخل الشركة في دفعها لأهمية التكوين بالنسبة إلى مهندسي الصيانة، وهو ما تركز عليه شركة الخطوط الجوية الجزائرية.