استضاف موعد مكتبة الاجتهاد الأسبوعي، أوّل أمس، الكاتب سعيد ساعد لتقديم كتابه "أسطورة مجدّدة لأغنية الشعبي اعمر الزاهي"، الذي تضمّن تفاصيل من حياة هذا الفنان الراحل، الذي ظلّ حيا في ذاكرة الجزائريين بفضل رقيّ فنه، ورفعة أخلاقه. أشار ضيف "الاجتهاد" إلى أنّ الراحل الزاهي وُلد بمنطقة القبائل، وكان دوما يحن لمسقط رأسه حيث النقاء والطبيعة والذكريات. وفي السنوات الأولى من طفولته وقع الطلاق بين والديه، فجاء إلى القصبة عند أخواله ليعيش حياة أخرى، حيث كان هذا الوسط العائلي فرونكوفونيا بامتياز تسود فيه الثقافة الغربية، ويحضر فيه الفن الغربي. وذكر الكاتب أنّ خالَي الزاهي هما الطبيب الجراح حنفي، والصحفي بالقناة الإذاعية الثالثة المعروف أحمد يسعد، الذي كان مهتما بالأغنية الغربية، ويستقبل جديدها دوما، ليبثه على الجمهور الجزائري حينها. من أزنافور إلى الشعبي قال الكاتب إنّ الزاهي كان يقلّد المغني أزنافور إلى درجة تجعل المستمع يظنّه ذلك الفنان حقا. كما كان في بداية شبابه لا يهتم بأغنية الشعبي، ولا تستهويه. وكان يعتقد أنّ هذا الفن يكرّر نفسه منذ قرون، وبالتالي لم يلتفت إليه، ليدخل بعدها عالم الفن من خلال "الحومة"، ويتعاطى الشعبي، والماندولين، ونشط أوّل حفل له سنة 1961. وثمّن موهبتَه مكتشف المواهب مصطفى طاوس. ثم درّبه الفنان بوعلام بلمو. كما كان لمقهى حوشي (أداره قهيوجو أخو الحاج مريزق) التي يتردّد عليها الفنانون، ليتكفّل بالزاهي عدة شيوخ منهم الشيخ الحلو، ومحمد قبايلي، وقدور بسطرزي. وفي سنة 1965 شارك الزاهي في مهرجان أغنية الشعبي. وافتكّ جائزته الأولى، علما أنّ الحاج العنقى هو من ترأّس لجنة التحكيم. وأكّد الكاتب أنّ فن الشعبي بدأ يتراجع مع نهاية السبعينيات، خاصة عند جمهور الشباب، لكن مع الزاهي استمر الجمهور في الإقبال، وتذوّق هذا الفن الراقي، وأصبح الزاهي ليس فقط مغني الشعبي، بل تجاوزه ليكون مغني الشعب. وكان الاستماع إليه لا يشبه باقي المطربين بل ارتبط بأجواء وأحاسيس معيّنة، وبصور تتبادر للخيال. وكان الزاهي في عزّ حفله، يتوقّف للحظات ويطيل النظر إلى العازفين؛ وكأنّه يشكرهم، ويقدّر عملهم. وبعد سنة 1969 التقى الزاهي بالملحن محبوباتي في انطلاقة جديدة كُلّلت بالروائع؛ منها "ديك الشمعة"، و«جاه لصحاب"، و«الغربة"، و«العدرة"، و«سال قلبي يعطيك خبارو". وانتشرت في كلّ الوطن، وأصبحت هذه الأغاني تذاع في كلّ مكان، وفي الفضاءات العامة، ليجلس الجمهور ويسمع، ما ساهم في نشر الشعبي (العصري). والفنان الزاهي الذي رآه البعض "جنّي الشعبي"، كان، أيضا، مولعا بالموسيقى الهندية والعالمية الكلاسيكية، وبعازف القيثارة الإسباني مانيتا بلاتا. كما كان معروفا ب«الهواوات"، وبالارتجال. وشهد اللقاء عدّة تدخّلات وشهادات من أصدقاء وجيران الراحل الزاهي، ومن بعض المثقفين أيضا، كان منهم صديقه الوفي الوناس آيت وعدية (خطّ مقدمة الكتاب) الذي لازمه منذ أن كان في عمر 6 سنوات بالمدرسة، حيث أكّد أن الزاهي كان مولعا في بداياته، بالفنان بوجمعة العنقيس؛ هو من حبّب له الشعبي. ثم قلّده في بداية مشواره، لتنشأ بينهما علاقة صداقة وأخوة. وكان الحاج العنقيس، بدوره، معجبا بالزاهي، وبنعومة صوته. كما أوضح السيد آيت وعدية أنّ الراحل الزاهي كان يخاف من الشهرة، ولا يسعى إليها. وفي آخر حياته كان يفضّل الوحدة والانعزال رغم حبّه للناس. وكان يستمتع بمناظر الطبيعة في مسقط رأسه. واستطاع بموهبته أن يصنع أسلوبه الخاص، وأن يجلب الجمهور النسوي له. شهادات أخرى تحدّثت عن حب حياته، وكيف أن أهل محبوبته رفضوه عندما تقدم لخطبتها بحجة أنّه فنان، لكن ظلّ الحب قائما حتى تقدّم العمر بينهما. .. فنان الشعب من الشهادات أيضا مواقفه الإنسانية؛ كتنشيطه الأعراس بالمجان. وكان يتكفّل، مثلا، بإحياء عرس شاب ما، ثم ينشط حفل ختان ابنه بعد سنوات، وكان المال لا يعنيه. وذكر الكاتب أنّ الزاهي كان يتكفّل، أحيانا، بأعراس الفقراء، ويتأثّر لحال الضعفاء. وكان رفيقا، أيضا، بالحيوان، كما كان مولعا بالبحر؛ لذلك لازم كثيرا ميناء بوهارون مثلا؛ حيث كان يشتري السمك ويفرقه على المحتاجين؛ ليعيش كعادته لغيره. كما كان يشجع المواهب الشابة التي تأتيه من كل مكان. وفي العشرية السوداء توقف عن الغناء، خاصة بعد اغتيال الشاب حسني. ثم واصل مشواره رغم المرض خاصة مع داء السكري؛ حيث أصيب بشلل في الأصابع، ما حرمه من العزف. وبعد العلاج استعاد عافيته، علما أنّه كان يرفض السفر إلى فرنسا للعلاج. وقال الكاتب إنّ خصال ومواقف الزاهي، حسب الشهادات التي جمعها، أذهلته إلى درجة أنه تقاسم بيته مع أحد الجيران، وكذا احترامه للمرأة. آخر حفل للزاهي كان في 2014؛ حيث بدا عليه التعب. ولم يستطع إكمال الحفل، ليدخل عالم الانعزال. وكان يدخل عند دكان صديقه مرزاق. وظل ملتزما بتشجيع المولودية إلى أن رحل تاركا الفراغ والذهول من ذلك حال أصدقائه ومعارفه، منهم المجاهد ياسف سعدي، لتحضر الحشود من كل الولايات جنازته، ناهيك عن الجسر الجوي من باريس ومن كندا، ويخرج جثمانه تحت الزغاريد.