البطلة جميلة بوحيرد أن تتحدث جميلة الجزائر وتفتح جراحها الغائرة للجزائريين بعد أربعين عاما فذلك في حد ذاته المنعطف البارز والخطير في تاريخ الجزائر... أن تكشف عن واقعها الحقيقي والمرير تلك المرأة العظيمة التي دوخت المستعمر كما دوختنا نحن أجيال الاستقلال بعفتها وطهارتها وزهدها في السلطة وبهرجها، فذلك هو المجهر الذي ليس له مثيل في كشف زيف يسري بين أرجلنا وأعيننا وقراطيسنا . * * أن تتوجه جميلة التاريخ إلى الشعب الجزائري تطلب عونا منه حتى تعالج من أمراض ألمت بها لعمري هو الفيصل الذي بعمقه دلالات دامية لمن يعرف حقيقة هذه المرأة الذهبية التي لم يتسلل لها الوهن والطمع يوما. أن تقلب الأوراق الكثيرة في مشهدنا السياسي والإعلامي بمجرد صرخة في ظل وطنية وزعت بالمجان في مشهد تراجيدي تحت تأثيرات ظرفية، فهو وسام لا يناله إلا المكرمون في الدارين . * أن تفسد جميلة بوحيرد على بعض صناع القرار نشوتهم في انتصار حققه أبناء الجزائر نكاية فيمن تطاول على ثورتنا وشهدائنا ومجاهدينا، ولم تفعل ذلك طمعا في طول العمر كما قد يخيل للبعض، لأن المرأة التي أفرحها الإعدام وهي شابة كيف ستخاف اليوم من موت آخر وهي ترى بلادها مستقلة .. ! ؟ * من لا يفهم حقيقة جميلة بوحيرد لا يمكنه أن يقترب من أسوار هذه الرسالة التي بادرت بها، التي تبدو صغيرة لكن حجمها يفوق الأوراس وجرجرة لو اجتمعا معا، لأن حقيقة أمرها ثورة على الواقع المزري الذي تعيشه الطبقة المجاهدة الحقيقية، وليس أولئك الانتهازيون وما أكثرهم الذين يفبركون لأنفسهم جهادا وثورة وتاريخا عبر النفوذ والجاه والمال، ومن خلال دوائر بارونات الاقتصاد والإعلام الذين يتسربون ما بين قش الزيف كما يتسرب الماء . * كثيرون هبّوا لنصرة جميلة بوحيرد من أجل توفير المال وجمع التبرعات لها حتى تعالج في الخارج وتمكن من صحتها وعافيتها التي هي عافيتنا جميعا، وكأنهم تجاهلوا أبعاد هذه الرسالة التي بعثتها امرأة أرعبت بيجار وأذياله وأعوانه وهي الآن ترعب مرتزقة الثورة الذين يعتاشون على ظهور الحقيقة التي تعرفها جميلة وأخواتها في ربوع الجزائر الجريحة دوما ودائما . * * ما أروع عفّة الأبطال * عندما ألهمت جميلة العالم بجهادها وبطولتها، كان البعض يعتقد أن هذه الحسناء الجزائرية التي تجردت من كل أنوثتها ولبست فحولة لا تضاهيها إلا فحولة العربي بن مهيدي، سي الحواس، الأمير عبدالقادر والعربي التبسي... وغيرهم، كان يعتقد الكثيرون أنها ستغرف من الغنائم عندما استقلت الجزائر وتنعم بالمناصب التي جاءت إلى باب بيتها وردّتها بإكبار نفس أبية تأبى أن تنال المقابل على واجب قدمته في سبيل وطنها المحتل من قبل إمبراطورية ذلك العصر. وهو الذي لم يحدث لأن الجميلة ظلت تحافظ على جمالها وسحر أسطورتها ولم تتنازل عن عرشها. * إن الرسالة التي يمكن أن نسميها وبحزن "رسالة وداع" لجميلة الجزائر مع أن قلوبنا تتفطر كمدا عليها فهي التي ألهمتنا معاني الكبرياء والفحولة والمروءة الجزائرية في أعلى قممها وأبهى مشاهدها، هذه الحروف القليلة والمعدودة والتي أكيد أن أغلب الجزائريين حفظوها عن ظهر قلب، استطاعت أن تحرك الواقع وتصنع المشهد مجددا، فما أروع المجاهدين وصناع التاريخ عندما يتعففون ويتحركون في الوقت المناسب والضروري فقط . * لقد تساءلت لو أن كل القامات التاريخية وأهراماتنا التي هي طبعا أكبر من تلك الأحجار التي يتعبد لها آل مبارك، كانت قد تعففت وحافظت على براءة جهادها ونضالها وبطولاتها، أليس في الأوقات الحرجة وما أكثرها نجد كلمة منهم تعيد المياه إلى مجاريها، وتنقذ الجزائر العظيمة من عبث العابثين وطيش الخفافيش الذين ما صار يهمهم إلا بطونهم وتهريب الأموال بالفساد والمنكر في حق أمة لا يزال التاريخ يعزف لها أناشيده من قيمة جزائرنا يا بلاد الجدد أو يغني لها إلياذات يركع لها الجبابرة عبر العصور. * لقد جعلت بطلة التحرر الإنساني كل العالم يتحرك عندما واجهت حكم الإعدام ببسمة طاهرة، وها هي ستحرك الدنيا عندما تحدثت لشعب أحبها وصلّى في محاريبها ورتل اسمها على أوزان وقوافٍ مختلفة، وأكيد سيغار منها أولئك الذي سقطوا يوما بالعفن ثم صاروا في الأرشيف لا يذكرهم أحد، وحتى إن حاولوا العودة بفضائح أو خفايا يطلقونها لأجل الأضواء ... ما أجلّ عفة الأبطال وخاصة لما يكونون من طينة جميلة بوحيرد . * جميلة لم تطلب العلاج، فهي تقول لكم عالجوا التاريخ المريض بواقعنا ولا تجعلوه يموت بين أيديكم ولا يظهر إلا في المناسبات سواء كانت رياضية كما جرى مع مصر وطيش نظام مبارك، أو يتجلى في المواسم الانتخابية كما جرى عندما تم تعديل الدستور، حيث ظهرت المواد التي ستحمي الثورة والمجاهدين كما تحمي المرأة وترد لها الاعتبار. فتباً لكلمات تسمى موادا أملتها أطماع مختلفة لم تعط لجميلة الجزائر كرمز مكانتها المرموقة ولا حافظت على مجدها كامرأة هي أكبر من نساء العصر الحديث. * جميلة لا تبحث عن الإحسان لشخصها حتى تعالج وتعود في كامل لياقتها لأنها أكبر من ذلك، وكان بإمكانها أن تحقق ذلك في رمش العين بمجرد هاتف لأعلى المستويات في العالم العربي والدولي وليس الجزائري فقط، لأن من فيه قلبه ذرة من المروءة يتمنى أن ينال شرف خدمة جميلة بوحيرد ولو للحظة، بل دقت ناقوس الخطر على ما آل إليه التاريخ من طرف شرذمة سطت على كل شيء، فلما تمكنوا من المال عادت فئرانهم تقضم سجاجيد التحدي والثورة العملاقة . * جميلة التي كانت تطرق أبواب الرئيس الراحل هواري بومدين من أجل الدفاع عن المجاهدين لم يشهد يوما أن طلبت شيئا لنفسها وحتى عندما منحها فيلا فلأنها لا تستطيع أن تصل للطابق 18 حيث شقتها متواضعة والمصعد يتعطل يوميا، ولما استولى عليها غريب ووجدته من مجاهدي الثورة لم تجرؤ على أن ترمى أوانيه وصغاره إلى الشارع وتركتها هدية له . هل يعقل اليوم أن ترجو من الجزائريين معونة لأجل العلاج كما تخيل البعض !! ؟ * وأنا أقرأ رسالتها أحسست أن دمي يسري في عروق هذه الأم التي هي أم المقاومة... أم التاريخ... أم الكبرياء... أم العظماء... أم الفحولة... هي شقيقة فاطمة نسومر... هي أخت العربي بن مهيدي... هي آخر ما تبقى من رائحة عظماء الجزائر الذين لم تلطخهم أطماع السياسة ولا بهرج السلطة ولا صداع المعارضات . * لقد صنعت جميلة بوحيرد التاريخ وبقيت راهبة في محاريبه، جعلت دوي الجزائر يتردد في كل أصقاع الدنيا، ولما تحقق الاستقلال وهزمت فرنسا عادت لبيتها الضيق وهي تتأمل فحش الصراع على الغنائم، بل كانت تبكي أحيانا عندما ترى من لم يطلقوا رصاصة واحدة وهم يتبجحون بالبطولات المزعومة والمفبركة ويبعدون المجاهدين الحقيقيين حتى من بطاقة العلاج المجاني، ورغم كل ذلك فضلت أن تلوذ بالصمت من أجل الحفاظ على وحدة البلاد وسمعتها . * كم من مجاهد قاد المعارك بصدر عارٍ وبطولة ليس لها نظير وهو اليوم في مصاف المجاهيل الذين إن تكرموا عليه فقد أطلقوا اسمه على شارع مغلق يستغله الأطفال في مقابلات رياضية بكرات من القش للتسلية واللهو أو العابرون لأجل قضاء حاجاتهم الطبيعية -أكرمكم الله - * كم من مجاهد كان بيته محجّا للثوار وقد دمره الغزاة وأحرقوه بل عذبوه بالماء والكهرباء وعندما مات لولا حرمة الجثث ما وجد قبرا يوارى به...! كم من مجاهد توفي ولم يمش في جنازته إلا ابنه وحفيده وسيارة قديمة تحمل نعشه، في حين ترى الملايين في جنازات مهربين وتجار مخدرات بل فيهم من قتل في حادث مرور وهو في حالة سكر. كم من مجاهد اضطر أن يعمل خمّاسا أو "عساسا" لدى من ذبح والده الشهيد وهو يعلم علم اليقين بذلك ولكن بكاء صغاره أجبره على ما لا يتمناه في حياته...! كم من مجاهد رأيته بعينيَّ وهو في طابور من أجل الظفر بقفة رمضان، لأنه لم يتمكن أن يدفع أموالا من أجل أن يتحصل على الاعتراف ومنحة وزارة المجاهدين...! كم من مجاهد تراه يتردد على مكاتب البلدية لأجل أن يستخرج شهادة ميلاده ولم يتمكن لأن مظهره متواضع وبسيط...! في حين نرى أصحاب ربطات العنق من المفسدين تحمل لهم الشهادات لبيوتهم . !!! كم من مجاهد لا يزال يقطن بيتا قصديريا لا يقيه من برد الشتاء ولا حر الصيف، في حين القصور وبمبالغ رمزية تمنع للمغنيات والغانيات .. ! * لقد ظلمناك جميلتنا عندما نسينا التاريخ، ولا أقول نسيناك لأن التاريخ كالحناء في راحتيك ويتسرب كالماء بين أناملك... عندما تجاهلنا الثورة والعظماء... عندما استصغرنا بطولاتكم ورأيناها مجرد نفخ في الرماد... عندما صرنا كالبيوت الخاوية لا يرتد الصدى إلا عند الصراخ ... هكذا تحولنا .. فهل يا ترى الذنب ذنبنا أم ذنب من ..! ؟ * بعد ما تقدم أريد أن أعرفك بنفسي يا جميلة الجزائر، فأنا من عائلة ثورية فيها الجد أحمد استشهد تحت التعذيب في سجن تبسة عام 1957، وفيها العم بلخير أختطف من جامعة الزيتونة عام 1958 ولم نقف على قبره إلى يومنا هذا، حتى جدتي ڤرمية - رحمها الله - من شدة حرقتها توفيت ليلة أول نوفمبر1993. والدي مبروك حفظه الله مجاهد ومناضل قدم الكثير لثورتنا الخالدة، وعمي محمد مجاهد سجل في الأوراس عملية فرار من السجن، حيث قفز من الطابق الثاني وهرب تحت مطاردة الكلاب والعسكر و"القوميّة". لي خال اسمه الميداني بوزيدة ذبح أمام بيته على يد حركي بعدما قبض عليه في مواجهة عسكرية، ورغم السكين الذي امتد من الوريد إلى الوريد لم يتزعزع ولم يكشف لهم سرا واحدا عن زملائه، واليوم لم يذكر حتى في مراسم دفن لرفاق أمسه، أما أخوه محمد فقد اغتالته جماعات الموت عام 2000 وهو مجاهد يشهد له الكل بالبطولة. * لي قريب اسمه أحمد بن لهويدي قاد لوحده معركة ضد الجيش الفرنسي حتى قتل عطشا بعدما تمكن رصاصه من ضباط كبار، واليوم لا يذكره أحد كأنه خيال عابر. أما عمتي زرفة فقد لاقت الويل بسبب زوجها البطل محمد بن صالح الذي كان اسمه يرعب الفرنسيين في المنطقة، ولكنه توفي ولم يكرم حتى بندوة واحدة - تحكي مأثره - ، بل أنهم أطلقوا اسمه على شارع لا يمر عليه أحد . واللافتة لم يتمكن من قراءتها حتى الذي كتبها بخط يده . * أنا من مدينة الشريعة التي أنجبت الشاعر العظيم أمحمد الشبوكي صاحب رائعة جزائرنا الذي توفي ولا يملك إلا بيته القديم وسيارة بيجو 404 رغم من أنه كان نائبا في البرلمان وعضوا في المجلس الولائي ورئيس البلدية لسنوات، ولكن عفة الكبار عظيمة دائما ولو كان في أحضانهم ملء الأوراس ذهبا . * لو استرسلت أمنا جميلة في تعداد مآسي الثوار والمجاهدين في عائلتي وأهلي وأقاربي وكل ربوع جزائرنا الحبيبة ما كفتني المجلدات، فأنت متأكدة أن الوضع كارثي لذلك طرقت نواقيس الخطر بعدما طال بك قطار العمر ولم تتكحل عيناك الرائعتان بجزائر كما تمنيتها يوما وأنت بين يدي بيجار وجلاديه . * هذه بكائية وصرخة أحملها عبر شروقنا الحبيبة، وهي من شاب جزائري يعيش المنفى في أرض غزاة قد نغّصت أنت عليهم وجودهم الاحتلالي والإحلالي بالأمس، واليوم لا تزالين شامخة كما عهدناك . * إن أنت رفضت العلاج بأموال فرنسية، فكيف بنا نحن جيل الاستقلال الذي يعول علينا في تسلم مشعلكم الذي لا ينطفئ ولو في قلب الأعاصير، فكيف سأقول أنا من تحصل على الحماية وحق اللجوء هربا بالروح ممن همه الترصد لي وللأسف الشديد بفرنسا الاستعمار!!؟ * هل تعلمين أنني لم أحمل في حياتي جواز سفر جزائري والآن صرت أتعفف من السفر برخصة تمنحها السلطات الفرنسية ونقابل في المطارات كأننا لصوص؟ هل تعلمين أن كرامتي هدرت في يوم ذكرى استفتاء تقرير المصير والآن أسعى أن اقتص عبر العدالة الدولية بعدما ظلمتني عدالة بلادي! ! ؟ * سامحينا يا جميلة الجزائر إن تناسيناك، فإن جراحنا نحن أيضا غائرة، وللأسف الشديد زدنا في معاناة آبائنا وأمهاتنا وجداتنا وأجدادنا الذين كانوا يظنون أنهم سينعمون بنا في جزائر الحرية والاستقلال... هذه بكائية من ابنك الذي هو حفيد الشهداء والمجاهدين أجبر على اللجوء ولكنه جعله بأرض أحفاد بيجار حتى يحرج الكثيرين لهذا الوضع المشؤوم ... فأعذريني يا جميلة الدنيا، هذا الذي استطعت أن أحمله لك .