عندما تزور اليونان، فأنت على موعد مع التاريخ.. عبقه يفوح بالحضارة التليدة، فهو مهد العلوم والفلسفة والأساطير.. هو بلد صغير نائم بين أحضان الحوض الشمالي الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، لكنه كبير بتراثه وبموروثه، فهو منشأ الحضارية الغربية، وفلاسفته هم من وضع أسس الديمقراطية التي تحولت اليوم إلى نظام حكم يعتبر الأقرب إلى تمكين الشعب من حكم نفسه بنفسه. من يزور اليونان ولا يحط الرحال بمنطقة "ميتيورة" يكون قد فوت على نفسه الوقوف عند واحدة من الحظائر الطبيعية النادرة، التي تشهد على مدى غنى هذا البلد بالروائع والأساطير.. هي حظيرة تتكون من نحو ألف صخرة تنتصب على شكل أشجار غابة مترامية في سهل "تيساليا" الواقع وسط اليونان.. وما زاد من جمالية المشهد، هو أن هذه الصخور التي يرتفع بعضها إلى مستوى ال 600 متر عن سطح البحر، تنتصب على شكل أعمدة وتحتضن في قممها أديرة وكنائس بنيت في القرن الحادي عشر الميلادي، تبدو كل منها من بعيد أشبه ب "كعكة" تعلوها كريمة حمراء، هي قرميد الدير.. كثرة الأديرة بهذه المنطقة حولتها في وقت ما إلى دولة رهبانية كانت تسمى "سكيتي"، وتمحورت حول كنيسة ثيوتوكوس أو مريم العذراء، كما تسمى باليونانية، وهي لا تزال قائمة حتى اليوم. ويذكر بعض المؤرخين أن فكرة إنشاء هذا العدد الكبير من الأديرة المعلقة على قمة هذه الصخور الشاهقة، كان بهدف الهروب من الاستعمار التركي الذي استمر في اليونان لنحو 400 سنة.
"ميتيورة".. عجائب الطبيعة كان يوما جد حار، عندما نزلنا بها برفقة السيدة "ماجدا"، ممثلة "دام تور" للسياحة والأسفار متعهدة هذه الرحلة، برفقة دليل سياحي من فرنسا.. غير أن شدة الحرارة لم تحل دون توافد مئات بل آلاف من السياح على هذه الأعاجيب الطبيعية (نحو 2000 سائح يوميا). الحافلات متوقفة عند جنباتها والوجوه التي نزلت منها تنبئ بأنهم من جنسيات مختلفة يصعب حصرها، روس، بلغار، يابانيون، صينيون، كوريون، عرب، ألمان.. كانت "ماجدا" حريصة جدا على عدم الابتعاد عن الفريق خوفا من أي "مغامرة" قد يقدم عليها أي من مرافقيها، بسبب صعوبة التضاريس وخطورتها، فالبعض كان مولعا بأخذ الصور حد الهوس، وقد اختار مواضع على حافة جرف مخيف..
أديرة معلقة حقا، المشاهد تأسر زائريها، لأنها في الأصل مناظر طبيعية تزاوجت مع ما أبدعته يد الإنسان، التي حولت قمم هذه الصخور إلى أماكن تفوح بالحياة الروحية. كان الرهبان يقضون أيام الأسبوع في العبادة ولا ينزلون منها إلا أياما في الأعياد للاحتفال. اليوم، الكثير من هذه الأديرة تحول إلى حظائر مفتوحة للزائرين.. والتي لا تزال تؤدي دورها كأماكن للعبادة لا تتعدى الست، خمس للرهبان الأرثودوكس وواحد فقط للراهبات. أما المتبقية وعددها 15 كنيسة فتحولت إلى معالم ومزارات للسياح، لا تزال فيها الأدوات التي كان يستعملها الرهبان منذ قرون شاهدة، وهي مصنفة اليوم ضمن التراث العالمي لليونيسكو. ومثلما تأسر المناظر من بعيد، فإن تسلق هذه الصخور الشاهقة من أجل الوصول إلى الدير لا يقل إبهارا، لأن من صنعوا الحياة في هذه القمم، استبقوا ذلك بحفر أنفاق صغيرة وسط الكهوف وإقامة جسور معلقة لربط القمة بالقاعدة، وفي أحيان أخرى تستعمل السلالم الخشبية المعلقة، أما الأغراض فترفع إلى الأديرة عبر حبال متصلة ببكرات تقليدية.
بلاتاموناس.. لؤلؤة المتوسط وعلى غرار أديرة "ميتيورة المعلقة"، تعج اليونان بمشاهد تأسر زائرها، فغير بعيد عن جبل الأساطير، أولمبوس الشهير، يتمدد شاطئ "بلاتاموناس" اللازوردي الهادئ. هذا الشاطئ يتوفر على ميناء سياحي خلاب، مزين بقوارب صغيرة راسية عند حوافه، وعلى بعد أمتار قليلة تصطف مطاعم وفنادق صغيرة لكنها على قدر كبير من الأناقة، مثل فندق "روايال بالاس"، و"بورتو مارين".. تعرض خدماتها على زوار الشاطئ بتفان. في الليل تتحول هذه المدينة الساحلية الهادئة نهارا إلى فضاء يعج بالحركة، إذ يصعب العثور على طاولة في مطعم أو فندق وما أكثرها على الشارع المحاذي للشاطئ.. لتناول وجبة العشاء أو التمتع ببرودة المثلجات. إنه حقا موضع يستحق الاستمتاع بجماله.
"حظيرة" الأساطير يعتبر جبل أوليمبوس، أعلى جبل في اليونان وهو مقدس في الميثولوجيا الإغريقية القديمة، التي تعتقد أن آلهة اليونانيين تعيش فوق هذا الجبل، وتقول الأساطير الإغريقية إن قصر كبير الآلهة "زيوس" يوجد فوق أولمبوس. ومن الأساطير الخالدة، معبد "أكروبوليس" الذي يوجد على هضبة صخرية في قلب العاصمة أثينا، ويستمد هذا المصطلح معناه من المكان (أكرو ومعناه عال)، و(بوليس ومعناه المدينة)، وهو يعد من أشهر المعابد اليونانية القديمة. أعمدته لا تزال منتصبة إلى غاية اليوم، وهو الذي تم بناؤه قبل الميلاد بالاعتماد على صخور رخامية ضخمة تم جلبها من بضعة كيلومترات. ويشهد حاليا عمليات ترميم واسعة لحماية أعمدته من السقوط، فقد أصبح منذ ثمانينيات القرن الماضي جزءا من تراث اليونيسكو. يمكن لزائر هذا المعبد أن يمتد بصره إلى كافة أنحاء مدينة أثينا الحديثة لموقعه المتميز، ولذلك فقد اتخذه العثمانيون مقرا لسلطاتهم على مدار نحو 400 سنة، التي حكموا فيها اليونان. أما اليوم فال "أكروبوليس" يعتبر مزارا لا غنى عنه بالنسبة إلى السياح من مختلف الجنسيات.
هنا.. مهد الديموقراطية وغير بعيد عن هذا المعبد، توجد هضبة صغيرة تكسوها صخور كلسية، وقد غطتها بعض الشجيرات. دليل الفريق السياحي، وهي سيدة يونانية تجيد الحديث باللغة الفرنسية، قالت إن تلك الهضبة كانت مكانا يجتمع فيه سكان أثينا ويختارون من ينوب عنهم في الحكم بالتصويت المباشر (برفع الأيدي)، وكانوا يصادقون على القوانين.. وبالقرب من هذا المكان أيضا، تنتصب صخرة كبيرة، حيث كان الأثينيون يحاكمون المجرمين أمام الملإ.. اليوم، الديمقراطية اليونانية مريضة بسبب الاقتصاد، فالبلد لا يزال ينشد التعافي من أزمته الاقتصادية، فجهود الاتحاد الأوربي لانتشال بلد الإغريق من أزمته المالية الخانقة لا تزال تراوح مكانها، لكن اليونانيين يعولون كثيرا على السياحة لعلها تخفف من متاعبهم.