يدور في هذه الأيام نقاش حول دور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الثورة، وأنا أتكلم بلا عقدة، حيث أتمتع بصفتين: تلميذ في مدرسة تهذيب البنين والبنات بتبسة، وطالب في معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة التابعين لجمعية العلماء، ومبعوث في أول بعثة طلابية للقاهرة من الجمعية سنة 952 ؛ ومناضل في حزب الشعب الجزائري منذ 1948 عضو في المنظمة الخاصة. جمعية العلماء اضطرت للابتعاد عن الساسة (المتشددين)، ولو لم تفعل ذلك لأوقف نشاطها ولكان في ذلك خسارة للشعب الجزائري. لكن عندما كنا طلبة بمعهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة الذي تأسس سنة 1947 كنا نتلقى تشجيعا للانضمام لحزب الشعب من مدير المعهد الشيخ الشهيد العربي التبسي، ومن بعض الأساتذة مثل عبد القادر الياجوري، وعبد المجيد حيرش. وهذا يدل على أن جمعية العلماء في الوقت الذي اضطرت فيه لربط علاقة مع حزب البيان، يشجع بعض شيوخها الطلبة على الانضمام لحزب الشعب. وكانت نتيجة هذا التعقل أن بقيت تعمل للحفاظ على اللغة العربية وعلى الإسلام صافيا من شوائب الشعوذة، فتركت للجزائر المستقلة أربعين ألف تلميذ وتلميذة متعلمين في مدارس الجمعية بنت عليهم الجزائر المستقلة سياسة تعريب التعليم ، وهذا ما جعل الفرنكفونيون يحقدون على الجمعية ويعملون على تشويه سمعتها الوطنية. واندلعت الثورة وكان الذي فجرها شباب حزب الشعب، لكن جيش التحرير الوطني تكون في السنوات الثلاث الأولى للثورة من عنصرين : جنود فلاحين ، وإطارات لهم من طلاب العربية من محفِّظي القرآن، وتلاميذ الزوايا، وخريجي الزيتونة، ومدرسة الكتانية، وعلى رأسهم تلاميذ مدارس جمعية العلماء ومعهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة. فمن يحفظ حزب (عمّ) يجند الجماهير أفضل من حامل شهادة الدكتوراه من جامعة السربون او من جامعة الجزائر. وأذكر بعض إطارات جيش التحرير في الولاية الأولى من معهد ومدارس جمعية العلماء الذين تحضرهم الذاكرة، والذين سجل بعضهم الكتاب التوثيقي الجيد الصادر بباتنة (دور جمعية العلماء في منطقة الأوراس) في 2007 ، وهم: الهاشمي حمادي. علي عليّة. والوردي قتال. بلقاسم عالية. محمد علاق. زرعي الطاهر. زرايقية الصادق. نوار جدواني. محمد الربعي يونس. محمود فتني. بوازدية التومي. الطاهر حواس. الطاهر زعروري. حسين مخازنية. عبد الكريم عباس. أفراوي أحمد، محمود الواعي، ابن عبيد مصطفى، صالح دوادي، وزاني بلقاسم، بخوش محمد، الهادي حمدادو، الصديق بخوش، غنام عبد الحميد، طويل الطاهر، دوادي الجودي، السعيد عبادو، درياس يوسف، درياس أحمد، بوكريشة الصادق، قالة عبد المجيد، مسعود بوبكر، وزاني لخضر، معاش أحمد، عزوي محمد الطاهر، سعاده محمد، شعباني محمد، الهادي درواز، الصادق برباري، محمد خروبي، علي سواعي، محمد بوخروبة، عطية عبد الرحمن، محمد درفوف، ملوح محمد، فرحات نجاحي، حمودة عاشوري، معاش عبد الحميد، بودوح السبتي، منصوري محمد، إبراهيم مزهودي، محمد الصالح يحياوي، هلايلي محمد، تاغليسية محمد، عثمان سعدي، محمدي عبد الحميد، العيد مسعود، فيلالي مختار، العربي مومن. دراس علي. محمد الطاهرمسعودي. نوار (شهيد). محمد عيسى الباي. لخضر بوطمين. أحمد طرخوش. محمد شاكري. علي شكري. علي زرفاوي. محمد دريدي. محمد رايس. محمد صبوع. محمد بوالنور. عيسى دهان. خضير دهان. عمر دبابي. أحمد عبد اللاوي. أحمد كمام. محمد شعباني. إبراهيم جوادي ، حفناوي هالي. محمد رشاد بوزاهر. أحمد عرفي. عبد السلام برجان. عبد الحميد بوذن. الأخضر الوزاني. محمد رشاد بوزاهر. عبد المجيد بن غزال. محمد كمام. وغيرهم. وليس صدفة أن يأتي محمد بوخروبة [الهواري بومدين] تلميذ مدرسة الكتانية بقسنطينة على رأس جيش التحرير الوطني. هذا القليل من الذي حفظتهم الذاكرة وساعدني على جمعه الإخوان مختار فيلالي بباتنة، وعلي عليّه في تبسة، والأخضر وزاني. معظم هؤلاء كانوا إطارات مباشرة في جيش التحرير ، استشهد العديد منهم. إن عُملة الحركة الوطنية لها وجهان: حزب الشعب ، وجمعية العلماء، الأول يمثل فبضة [دَبزة] الثورة، والثانية تمثل ضمير الثورة... والمجاهد الشاعر محمد الشبوكي يقول في هذا العنى: يا أبا النهضة يا رائدها فزت من دنياك بالذكر الحميد فهنيئا يا ابن باديس الذي حرر الأفكار من قيد الجمود وأعدَّ الشعب للثورة حقا فاستعد الشعب بالجيش العتيد التحاق طلاب اللغة الفرنسية: وبعد عشرين شهرا من اندلاع الثورة أعلن طلبة المدارس الفرنسية إضرابهم عن التعليم. وكونوا إدارة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية باللغة الفرنسية في القاهرة، كنواة لإدارة الجزائر المستقلة، وتوّجوا ذلك بتوقيع اتفاقية إيفيان بنص واحد مثل الوفدين وهو النص الفرنسي، بينما أبرمت اتفاقية جنيف التي أنهت الاستعمار الفرنسي بفييتنام سنة 1954 بنصين النص الفرنسي ومثل الوفد الفرنسي والنص الفييتنامي ومثل الوفد الفييتنامي. ودخلوا الجزائر وجلس على الإدارة العامة للوظيف العمومي قطب من أقطاب حزب الشعب الجزائري هو عبد الرحمن كيوان، ولمدة أربع عشرة سنة فرنس فيها إدارة الدولة الجزائرية وهمش اللغة العربية، وخان بذلك حزب الشعب نفسه. محمد الصديق بن يحيى العضو المفاوض في اتفاقيات إيفيان، وقع سنة 1981 بصفته وزير خارجية الجزائر (اتفاقية الجزائر) المشهورة التي حُرر بموجبها الديبلوماسيون الأمريكان المعتقلون بسفارة أمريكا بطهران، صيغت هذه الاتفاقية الدولية الهامة والغريبة بثلاث لغات: الإنجليزية ومثلت الوفد الأمريكي، والفارسية ومثلت الوفد الإيراني، والفرنسية ومثلت الوفد الجزائري... وأحتفظ بمقال كتبه الصحفي الفرنسي بروشنيني، مراسل صحيفة الفيغارو الفرنسية بنيويورك، يعبر فيه عن سعادته لأن هذه الاتفاقية التي صارت تدرس في كليات حقوق العالم حررت باللغة الفرنسية وتسببت في تأخير توقيعها 24 ساعة. وقد أثرت هذه المسألة في اجتماع اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني ، ولمت بن يحيى فما كان منه إلا أن ضرب جبهته بيده وقال: "نعم، لم أنتبه لهذا الحطأ". وعند انتهاء الاجتماع حاورته وقلت له: "لا يشك أي واحد في وطنيتكم لكن أنتم واقعون تحت مخدر اللغة الفرنسية" ، فوافقني .. علما بأن اتفاقية باريس التي وقعت سنة 1975 وأنهت الحرب الأمريكية على فييتنام ، وقعت يثلاثة نصوص: النص الفييتنامي ومثل وفد الفييتنام ، والنص الإنجليزي ومثل الوفد الأمريكي ، والنص الفرنسي ومثل الوفد الفرنسي الوسيط مثل باريس التي أبرم بها الاتفاق. وسوف أتعرض لروعة الثورة قبل الانحراف بها في سنواتها الثلاث الأولى، معتمدا على أقوال الضباط الفرنسيين، والفضل ما شهدت به الأعداء. وصف الضباط الفرنسيين للمعارك: معركة الجديدة: يونيو 1956 ، التي كان الجيش الفرنسي بها بقيادة ثلاثة جنرالات والعقيد بيجار، وقادها من طرف المجاهدين عباس لغرور. كان حصارا محكما من طرف العدو، كان عدد المجاهدين 75 جنديا حوصروا من طرف قوات كبيرة بينها فيلق العقيد بيجار المشهور. ولنترك العقيد بيجار يصف المعركة .في كتابه: من أجل قطعة صغيرة من المجد parcelle de gloire, Plon 1975 : Pour une Bigeard : يقول: "عندما وصلني الأمر وأنا بمدينة عنابة أن أتحرك بفيلقي إلى جبال اللمامشة، جمعت جنودي وقلت لهم: "إفهموني جيدا: إنه في الجنوب في اللمامشة هذه، يكون من الصعب علينا أن نلعب دور الأبطال، في مواجهة متمرد يُقبل بل ويبحث عن المواجهة وعن المعركة، واللمامشة المشهورة المعتبرة، قلب المتمردين، وموضع رهبة الشرق القسنطيني، المتواجدة في منطقة ذات جبال مسننة، وعارية من الغابات، وذات هضاب مرتفعة بصخورها ووهادها، (أبواب جهنّم) كما قال عنها الجنرال فانوكسام Vanuxem ، جرداء ، صعبة مقطوعة بوديان عميقة، مملوءة بالمغارات والصخور، حيث لا أحد يتشجع على الاحتكاك بالمتمردين المتخندقين في كهوف هذه المنطقة الرهيبة". ويصف تنقل فيلقه إلى وادي الجديدة حيث المعركة سيرا على الأقدام، حيث يحتاج كل جندي إلى خمسة لترات من الماء يشربها كلما سار كيلومترين، تنقل له بواسطة الطائرات العمودية، وذلك حتى يُباغت المتمردون في نهاية المعركة يروي بيجار كيف أصابه قناص وهو في الطائرة العمودية في الصدر: " الساعة ,20 12 نقيب اللفيف يخبرني بأنه رغم قصفنا فإن الفلاقة لازمون مواقعهم ويطلقون من كل الأسلحة وأن الاقتحام صار مستحيلا... طرت في نفس اللحظة بعمودية حطت بي قرب وحدة اللفيف، أمرت صائحا بالهجوم.. ولم أعط أمرا آخر فقد لفحني سوط كبير في صدري، خرج الدم من فمي ، سقطت.. رأسي في الرمال الملتهبة، لقد نفذت رصاصة فوق القلب بسنتمتر واحد وخرجت من الظهر..استنشقت الهواء حاولت الوقوف أنا واع لكن في وعي ثانوي، وبحذر شديد حملت للعمودية التي أقلعت وسط صليات الرشاشات إلى مطار تبسة.." ، ونقل لقسنطينة ثم لباريس فالإصابة كانت خطيرة. من كتاب (إسناد ناري على واد هلال المغامرة المعاشة، للطيار بيير كلوسترمان .Clostermann vecue Appui-Feu sur L'oued Hallail l'aventure) Flammarion – Paris 1960 ) يعتبر هذا الكتاب من أهم الكتب التي صدرت تصف حرب الجزائر ويخاصة على الأوراس اللمامشة. مؤلفه طيار حارب بالحرب العالمية الثانية في سماء أوروبا، وبالفييتنام، يقول عنه الجنرال ديغول: "هو ضابط سام، طيار مطارد مؤثر حاصل على أوسمة لامعة.. تطوع وهو ضابط احتياط للخدمة في الجزائر في إطار عمليات [حفظ النظام]، كان دائما يتطوع لخوض أكثر المعارك خطورة، حيث كانت طائرته في عدة مرات تصاب بطلقات الخارجين على القانون". عمل بالجزائر سنتي 1956 و 1957 ، ركز في معاركه على ترديد اسم المجاهد الكبير الأزهر شريّط وعلى مقر قيادته في شڤة اليهودي بواد هلال، ويسمي كتابه بهذا الوادي. يصف جبال اللمامشة بإعجاب يشوبه خوف ورعب. يتبين أن المؤلف أديب له أسلوب شاعري، تحكمه مشاعر إنسانية تدفعه إلى أن يحترم ويقدر خصمه.. ويبدو من خلال تصدر كتابه بنص لألبير كامو أنه لا يؤمن بالحروب، ونص كامو: "يكفي أن تقود الحركة إلى الموت لكي تلمس نوعا من العظمة بالرجال: والتي تسمى العبث..". ولنورد مقتطفات من الكتاب: يقول: "يقدر الذين قتلوا من شباب الخدمة الوطنية الفرنسية في السنتين اللتين عملتُ فيهما بالجزائر بثلاثة عشر ألف (13000) شاب قتلوا في هذه العمليات العسكرية العقيمة، الغامضة، والغير المشجعة".[صفحة7 ] يصف وصوله لمنطقة أوراس اللمامشة فيقول: "كان الجنرال أوكسيفان Uxevent الواقف في ساحة المدينة الصغيرة خنشلة يقدم لنا نبذة عن عمليات الغد، كان دورفال [الاسم الحربي لكلوسترمان] يستمع بعناية، لأن واد هلال وشڤة اليهودي مقر قيادة الأزهر شريط كانت دائما أمرا عظيما يعبر عن حرب حقيقية وليس عمليات (الحفاظ على النظام) ، كان الجنرال ذو العينين المصنوعتين من الصلب، والشخصية الحديدية يقود منطقة أوراس اللمامشة، فمنطقته هذه كانت دائما جهنمية، في مواجهة مجموعات الفلاقة الأكثر تنظيما، والأفضل تسلحا بالجزائر كلها، ففي أوراس اللمامشة ولدت الثورة، وفيها اكتسبت صلابتها، إن التحدث عن التربيع والحصار التقليدي عبارة عن مسخرة مُرة وسط هذه الطبيعة المرعبة، المشوية بشمس لا ترحم الفرق الآتية من فرنسا، في جبال اللمامشة الوعول نمور.." "حاولت قيادة أوراس اللمامشة (الفرنسية) تفجير الدمّلة بواسطة ثلاث أو أربع عمليات واسعة، فشلت كلها بمجرد سقوط الليل مع تكبدها لخسائر جسيمة. لا تنفع المدفعية ضد هذه المتاريس الطبيعة، التجاويف تحمي الخارجين على القانون من قذائف المورتييه. سكبت الطائرات مئات الأطنان من القنابل ذات الوزن الثقيل، المدرعات لا تفيد لأنها لا تستطيع النزول إلى عمق الوادي، لقد جربنا كل الوسائل دون جدوى. إن أفضل قناصيهم المترصدين برشاشاتهم صاروا متخصصين بنجاح في التصدي لطائراتنا". الإعجاب بواد هلال لم يقتصر على الرجال ، بل شمل النساء، فزوجة الجنرال أوكسيفان Uxevent تطلب من كلوسترمان ان يأخذها بطائرته لرؤية واد هلال المشهور التي كثيرا ما سمعت زوجها يهذي به وهو نائم، ويلبي لها رغبتها خفية على زوجها.. يقول واصفا واد هلال: "كانت جلالة شعاب واد هلال تقطع نفس دورفال [الاسم الحربي له] ، فلا يوجد مكان حلّق فوقه يشبه هذه الطبيعة التي كوتها الشمس، وعذبتها الرياح، ونحتها الطوفان، إنه لم يشاهد طبيعة جهنمية كهذه: فعلى امتداد القرون شق الوادي بوحشية في جسد الصخر حنجرة وعرة عميقة بثمانمائة متر بواسطة دوران وعودة دوران. وعلى بعد عشرة كيلو مترات شمالي الجرف كسر كوعُ تدفق المياه الصخرَ فرمى على الضفة كتلا جبارة من الصخر أصغرها يساوي حجم قوس النصر بباريس، وفي الأعماق شق التيار الجارف ممرات متتالية وأروقة ضخمة تضيع كلها في صلب [بوجويب]. إنها حصن مشاد بعنف، مرصوص بعضها على بعض، مخترقة بأبرج مراقبة، ومسننة بمتاريس طبيعة، ومنخورة بستائر جدارية. إنها هذيان عسكرية دفاعية بزواياها المنيعة، بفتحات رماة السهام، وبأخاديدها المنحدرة المزروعة بالحصى الأبيض. كل ممر عبارة عن ترسانة تأوي كل شيء: السلاح والذخائر، المغارات التي بها مهاجع الجنود، وقاعات التمريض، وقطعان الماعز والأغنام، أما الماء فهو متوفر في سائر المواسم..تشاهد يوميا طائرات الاستكشاف دخان المشوي الذي ينضجه الخارجون على القانون دون محاولة إخفائه.. إنها للفلاقة قلاع دائمة، وقواعد انطلاق للهجمات، ومركز اجتماع قادة الولايات، ومرسى راحة عمليات رجال الأزهر شريّط الذين يسيطرون على الدعامات المتاخمة للصحراء والممتدة من بير العاتر وحتى تبسّة..".[صفحات 170 ، 171 ، 173 ]. ويستمر الطيار كلوسترمان فيقول: "في هذه المرة (ويقصد معركة الجرف) وضعت القيادة العامة كل وزنها، فالقائد الكبير تنقل بنفسه من مدينة الجزائر إلى هنا. عمليا كل القوات المتوفرة في أوراس اللمامشة، وتبسة، وأريس، ومن خنشلة إلى نڤرين هرعت في الليل للمحاصرة، جاءت سائر الطائرات العمودية من مطار سطيف وتلاغمة وحطت بالجرف، وعلى الساعة الثامنة صباحا آلاف مؤلفة مع مدفعيتهم نصبوا في القمم المسيطرة على الوادي، وأعلنت حالة الطوارئ بتلاغمة وباتنة وتبسة من ميسترال ، وأسراب الإسناد الخفيفة، وB47 . دورفال [الاسم الحربي للطيار كلوسترمان] يعرف جيدا أن أي حركة من حركاته في الجو مراقبة من الفلاقة المخفيين..لكنهم على غير عادتهم لم تبدر منهم أية حركة حتى الآن، ولم يطلقوا طلقة واحدة حتى الساعة العاشرة.. وفجأة تنفجر المعركة: كلاك.. كلاك.. وخفض رأسه لاشعوريا، لقد ثقب زجاج قمرة الطيار ثقبين وتمزق المعدن. مونكوماندون ، أصبت من عدة أماكن.. ألو، هنا الباز الأحمر، هنا ليو، لقد أصابني الأوباش، أنا داخل إلى تبسة. سد هائل من المدفعية يحاصر شڤة اليهودي حيث مقر قيادة اٍلأزهر شريّط ، يرتفع الغبار الذي تتخلله القذائف الملتهبة، هذا يكلف كثيرا دافعي الضرائب في فرنسا، ولا يضايق الفلاقة الذين هم الآن ينامون في قيلولتهم بملاجئهم الباردة ينتظرون الوقت المناسب للرد.. طائرة عمودية تخلي المصابين إلى المستشفى الميداني بالمزرعة.. أُسقط الملازم جوليان، حاولت عمودية التقاطه.. الغليان يعم شڤة اليهودي، لقد أصيبت لنا في ساعتين سبع طائرات [ويعلق المؤلف في الهامش فيقول: في 1957 تصاب لنا شهريا 50 طائرة، وفي شهر يناير 1958 أصيبت لنا 85 طائرة، وفي شهر فبراير 116 طائرة. وهذا تأكيد على أن المجاهدين لا يبالغون..] وانطلقت نيران الفلاقة الذين كانوا ينتظرون منذ الفجر هذا الوقت وكانت نيرانا جهنمية.. في هذه اللحظة تفتت زجاج العمودية إلى ألف جزيء لتهوي كسهم ملتهب.. حاول الطيار النداء بالراديو ولكن الدم الكامن في حنجرته خنقه، حاول أن يبصق أو ينفخ ليسلّك منخريه، لكنه لم يستطع" (صفحات : 181 ، 185 ، 186 ، 187 ، 190 ، 195، 197 ، 201 ,,) ويصف الطيار كلوسترمان آخر طلعاته على جبال اللمامشة في آخر الكتاب فيقول: "بعد الإقلاع من تبسة مر دورفال من خلال فجوة الدكّان، فوق قصعة ثليجان، وارتفع حتى ثلاثة آلاف متر ، باحثا عن هواء بارد.. تحت عينيه ترتفع جبال اللمامشة على أعمدة متتالية.. هذه الكتلة الجبلية الرهيبة، ذات التضاريس المجوفة البارزة ، المزروعة بكثافة بشبكات من الأعشاب المعمرة الدموية اللون، وبتشابك انقصافاتها الجبلية المذهلة العجيبة التي تهز فكرة الإلمام بمسلسل الأبعاد... هذه الهضبة العظيمة الخالية من الترحيب والاستضافة، المطوي سطحها قليلا، المرتكزة على الكتلة الخضراء للأوراس، والمسيطرة جنوبا بارتفاع ألف متر قائمة عموديا على الصحراء الممتدة بحماداتها إلى ما بعد الأفق، والمنغمسة في ضباب جاف". ( صفحة 193 ) . واد هلال الذي وصفه هذا الطيار الفرنسي وصفا رائعا، هو وادي يستقبل مياه الأمطار والثلوج النازلة على السفوح الجنوبية للأطلس الجنوبي الشرقي، ويصب في الصحراء فيغذي البحيرة الجوفية الألبية الجبارة. لا شبيه له بالعالم. في أمريكا يوجد شبيه له لكن أقل منه رهبة وغرابة وعظمة، وهو كانيون الكبير Grand Canyon كونت له ولاية لاس فيغاس مطارا تنطلق منه طائرات صغيرة محملة بالسواح يحلقون فوقه، وقد حلقتُ فوقه ووجدته أقل رهبة وروعة من واد هلال وفق وصف كلوسترمان والصور الجوية التي أخذها له. الدولة الجزائرية لم تهتم به، بل ولا يذكر حتى في دروس الجغرافيا. هذا الوادي هو الذي قال فيه ضابط فرنسي :"إذا قدر لدين بيان فو أن تقع في الجزائر فواد هلال هو مكانها".. الخلاصة: أولا: عرضنا كيف كانت الثورة في سنواتها الأولى تتكون من الفلاحين الأميين مؤطرين بطلاب اللغة العربية، كانت تسيّر باللغة العربية، ويتغنى بها شعراء الملحون الفلاحون بالعربية بعشرات الآلاف من الأبيات. ويشهد الطيار كلوسترمان أنه في السنتين اللتين عمل فيهما بولاية أوراس اللمامشة، قتل من شباب الخدمة الوطنية خمسة عشر ألفا(15000 ) شاب، بالإضافة إلى قتلى المتطوعين من اللفيف الأجنبي وغيره. ثانيا: بعد السنوات الثلاث الأولى حدث الانحراف: التحق المفرنسون بالحكومة المؤقتة بالقاهرة وكونوا إدارتها باللغة الفرنسية، وخرج قادة سيطروا على القيادة، وهرب ضباط من الجيش الفرنسي، وصارت الثورة فرنكفونية. وأعدم بتونس القائدان اللذان ذكرهما بيجار وكلوسترمان: الأزهر شريّط وعباس لغرور وغيرهم، وحلت الوحدات المقاتلة... ثالثا: وأوقف القتال وتكونت الدولة الجزائرية الفرنكفونية بتهميش لغة البلاد والعباد، وتحول الاستقلال خاليا من المضمون، وباقتصاد تابع للاقتصاد الفرنسي، لأنه لم يحدثنا التاريخ أبدا أن تنمية اقتصادية واجتماعية ناجحة تحققت بلغة أجنبية. وأكرر ما سبق أن كتبته، بأن الفرن العشرين عرف أعظم ثورتين هما ثورة الجزائر وثورة الفييتنام. وأي ثورة لا تعتبر نفسها ناجحة إلا إذا حققت هدفين: تحرير الأرض وتحرير الذات. الثورة الفييتنامية حققتهما معا بتطيبق فتنمة فورية شاملة، وبالتخلص من اللغة الفرنسية تخلصا من سائر الرواسب التي تركتها في الذات الفييتنامية؛ أما الثورة الجزارية فقد أجهضها المفرنسون ، فحققت تحرير الأرض فقط، تاركة الذات مستعمرة فرنسية ، ولا زالت حتى الآن كذلك، وكوّن المفرنسون المُجهضون لها الدولة الجزائرية الفركفونية التي أفلست اقتصاد الجزائر، فمداخيل البترول تمثل 97 % من مداخيل الجزائر من العملة الصعبة. في سنة 2006 قمت بإحصائية فوجدت أن الفيينتام بالفتنمة صدر خارج المحروقات بما قيمته ستة وعشرون مليار دولار مواد صناعية وزراعية، بينما صدرت الجزائر بالفرْنسة خارج المحروقات، في السنة المذكورة بما قيمته ستمائة مليون دولار فقط ثلثها خردة. علما بأن النفط الجزائري مآله النفاذ بعد عقود قليلة ، وفقا لتقويم الخبراء الجزائريين الدوليين. وهكذا تترك الأجيال المقبلة الجزائرية للضياع. رابعا: وكدليل على إفلاس الدولة الفرنكفونية، وبعد 55 سنة من الاستقلال، الماء الذي يشربه سكان العاصمة تسيّرة شركة فرنسية، ومطار الجزائر الدولي الجديد تسيره شركة رواسي الفرنسية ، فحري به أن يحمل اسم مطار شارل دوغول بدل مطار الهواري بومدين. والتوجه لتسليم السونيلغار ، والميترو الجزائري، وسكك الحديد ، والطريق السيار شرق غرب، وغيرها لشركات فرنسية، وتتحول بذلك جزائر المليون ونصف المليون شهيد إلى ما كانت عليه قبل 1962 لكن بنفقات جزائرية... خلاصة الخلاصة: الثورة الجزائرية تتكون من عنصرين: قبضة (دبزة) حزب الشعب ، وضمير جمعية العلماء، بهذين العنصرين تحررت الجزائر من الاستعمار أرضا