كتبت الأسبوع الماضي محذرا الطاقم الفني واللاعبين والجماهير والزملاء الصحافيين من مغبة الإفراط والتفريط، والتهاون والغرور، ومن كل أشكال الاستغلال السياسي والاجتماعي، الإيجابي والسلبي، لنتائج المنتخب الوطني على حساب مشاعر وعواطف الناس، ومصالحهم ومستقبلهم، وعلى حساب مجالات أخرى أكبر وأهم من اللعبة ومن اللاعبين والطاقم الفني، وأكبر وأهم من كل واحد منا مهما كان وأينما كان. * لأن تفوق الأمم يقاس بإنجازاتها الاقتصادية والثقافية، والاجتماعية والعلمية، ويقاس بمعدلات النمو الفكري والمادي، وليس بانتصار كروي ظرفي يستغله البعض في غير محله .. وعندما نكتب عن النقائص ونلفت الانتباه إلى هفواتنا وأخطائنا لا ندعي إعطاء الدروس لغيرنا، لأننا لا نملك الحقيقة المطلقة، ولكننا نقوم بواجبنا بالتذكير، ونكتب نيابة عن الملايين الذين نلتقي معهم في غاية الحرص على صيانة المكتسبات وتدعيمها، وضرورة توظيفها حتى تنعكس على كل مناح الحياة عندنا مادمنا نفتقد لمشروع وطني آخر نلتقي فيه كلنا، ومادام كل شيء معطل ومؤجل إلى حين، والكل يشتكي من الاختلالات في كل المجالات إلا في المنتخب الوطني الذي نريده برازيليا أو اسبانيا يفوز دائما ويتفوق على الجميع، ونريده متكاملا ومثاليا.. ولأن المنتخب صار مادة يخوض فيها العام والخاص ويصنع الحدث منذ مدة فإن تحذيرنا اليوم نوجهه بتواضع للسلطات العمومية والمجتمع المدني من مغبة الاعتماد على نتائج المنتخب الوطني في تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتغييب الحديث والاهتمام بالمجالات الأخرى الحساسة والهامة، وغياب الهيئات والمؤسسات الأخرى عن مسرح الأحداث، لأن هذا المنتخب لايزال في المهد هشا، وبعيدا عن المستوى المطلوب، ولأن معنوياتنا لا يجب أن تقاس بنتائج المنتخب وأدائه. كما أن مؤسساتنا الثقافية والاجتماعية والاقتصادية لا يجب أن يرتبط مصيرها ووظائفها بالمنتخب ونتائجه، وإذا حدث ذالك ستكون الطامة الكبرى، ويصبح البلد رهينة أرجل اللاعبين واختيارات الطاقم الفني، وينهار كل شيء، لأن المنتخب فشل . .. صحيح أن الجزائر والجزائريين بحاجة إلى منتخب قوي يسعدنا ويفرحنا ويجمعنا بعد ما أحزنتنا وفرقت بيننا أمور أخرى، ولكننا أيضا بحاجة إلى ثقافة وترفيه واقتصاد قوي واستثمارات عديدة ومتنوعة، وبحاجة إلى نساء ورجال متحررين ومبدعين في بلد يقوم فيه كل قطاع بدوره في المجتمع حتى لا تبقى معنوياتنا ومصيرنا رهينة نتيجة مباراة كروية، ورهينة حسابات شخصية ضيقة، وتقتصر طموحات الشباب على انتصار كروي يحققه المنتخب دون غيره من الانتصارات التي يجب تحقيقها في كل المجالات ونخفق في كل التحديات التي تنتظرنا، وكم هي كثيرة... ذهاب سعدان أو بقائه واستدعاء أو الاستغناء عن هذا اللاعب أو ذاك صار اليوم في أعين الصحافيين والجماهير أهم من الفراغ الثقافي الذي نعيشه وأهم من إرهاب الطرقات وما يحصده من أموات، وأهم من مشاريعنا الاقتصادية والاجتماعية المعطلة، وأهم من مظاهر الفساد والرشوة والآفات الاجتماعية التي تنخر جسد المجتمع، وصارت أخبار المنتخب أهم من أي مشروع سياسي أو اجتماعي لبلد يملك الكثير من الإمكانات والمقومات التي تجعل منه متألقا أكثر من تألقه في لعبة كرة القدم. كما أن حديث الشارع اليوم يخلو من أي إشارة إلى فشل الهيئات والمؤسسات الأخرى في القيام بواجبها، ويخلو من أي حديث عن انجازات أخرى تتحقق وفي حاجة إلى تدعيم وتوظيف وتثمين . المنتخب الوطني لا يمكن أن يحل محل المؤسسات الأخرى السياسية والثقافية والاقتصادية والتربوية، ولا يمكن أن يواصل المنتخب تغطية أحوالنا ويكون البارومتر الذي تقاس على أساسه أحوال المجتمع بكل أطيافه، وحان الوقت لكي تخرج إلينا صحافتنا في صفحاتها الأولى بأخبار أخرى عن أحوالنا وتحدياتنا في مجالات أخرى، ولِمَ لا في رياضات أخرى غابت عن الواجهة و لا أحد صار يتحدث عن نتائجها ومشاكلها . .. السلطات العمومية صار من واجبها اليوم الاهتمام بأحوال الناس الاجتماعية والثقافية والتربوية، وتوفير الشروط والإمكانات المادية والمعنوية التي تغنينا عن التركيز على كرة القدم والمنتخب الوطني في ظل الهشاشة التي تميزه، والبحث عن بدائل أخرى نعبر من خلالها عن اعتزازنا وافتخارنا بانتمائنا إلى هذا الوطن . نريدها "وان، تو، تري فيفا لا لجيري" في كل المجالات، ونريد العلم الوطني في عقولنا وقلوبنا وسواعدنا، ونريد روح أم درمان في وجدان كل واحد منا، وكل مؤسساتنا ومشاريعنا، ونريد تلك الروح الوطنية في كل القلوب والعقول، وعندما يفوز أو يخسر المنتخب يكون مجرد فوز أو خسارة في مباراة وليس فوز الجزائر كلها أو فشلها كلها، ولا يجب أن ينعكس ذلك سلبا على معنوياتنا، لأن الجزائر أكبر وأعظم من منتخبها ومن سعدان وغزال وزياني ومن كل واحد منا مهما كان، لذلك نحذر مرة أخرى من الإفراط في التعلق والاهتمام بمنتخب كرة القدم من قبل الجميع وإهمال كل واحد لواجباته في مجال اختصاصه، لأن التربية والثقافة والفلاحة والصناعة والسدود والمطارات والطرقات والمحروقات هي مكتسبات وتحديات تهمنا كلنا أيضا، ويجب أن نتفوق ونتألق فيها حتى نخفف على أبنائنا التعلق بكرة القدم فقط..