يأتي رمضان على أوروبا خاصة والبلاد التي غالبية سكانها غير مسلمة ضيفا عزيزا خاصا.. متخفيا احيانا في صخب الحياة الاوربية وضجيج مصانعها وورشات العمل فيها ويتجلى أحيانا بهيا زاهيا في مساجد حفرت بالاظافر في صلب المشهد الثقافي الاوروبي .. في أوروبا لا تتشابه المشاهد فمن تجمعات مسلمة وفيرة كما هو بالبوسنة والهرسك وكوسوفو الى مساحات متناثرة من المهاجرين المسلمين من عرب وعجم في بريطانيا والمانيا وفرنسا.. كما تنتشر بقع النور في مجموعات من المسلمين الاوربيين في الجامعات والطبقات المثقفة والعاملة سواء.. وفي كل مشهد تتشكل صفات معينة لرمضان ولكن يجتمع كل الطيف حول معنى واحد: ان رمضان شهر وحدة وعبادة وامتحان واعلان مجدد للانتماء لدين الله في جو من التحديات العديدة وأهمها تلك العنصرية لدى بعض الساسة والمتطرفين الاوربيين تحاربهم عن قوس واحدة. المسلمون القادمون من بلاد عربية أو إسلامية يتدثّرون بعاداتهم التي يحييها رمضان ويستحضر معالمها وذلك في محاولة للحفاظ على هويتهم الخاصة.. وهم يحيطون رمضان بكل ماله من قداسة وابتهاج ويحرصون ألا يفرطوا في طقوسه.. وهم يعتبرونه شهرا ضروريا لتذكير الأسرة الصغيرة بخصوصية الانتماء والجذور في محاولة الأسر المسلمة في الغرب للصمود في مواجهة التذويب والانحلال . أما المسلمون من أبناء البلاد الاوربية في اسبانيا وفرنسا وألمانيا وبقية أوروبا فهم يتواعدون مع رحلة روحية وتجديد لمعاني الاسلام واعتناق هذا الدين ويسجلون بصومهم انتصارا جديدا لهم امام انفسهم وامام عوامل الاحباط فيتعمق بذلك تجذّرهم في خط الهدى والدين المنتشر بحيوية رغم قلة الامكانات . لقد أصبح الاسلام الدين الثاني وجودا من حيث حجم الاتباع في اوروبا والاول في سرعة انتشاره في اوروبا.. وهو بذلك أصبح عاملا حاسما محتملا في توجهات المجتمعات الغربية.. ومن الملاحظ انتشار المساجد والمصليات باضطراد في عواصم اوروبا ومدنها وانخراط مجموعات نشطة من اهل البلاد في نشر الاسلام وتعاليمه، ومن الملاحظ ان المعتنقين للاسلام من الاوربيين ينتمون الى طبقات محترمة اجتماعيا وناجحة في وظائفها من أساتذة جامعات الى صحافيين وادباء وفنانين.. ومن الملاحظ ايضا ان النساء يشكلن أغلبية الداخلين في الاسلام في البلاد الاوربية وهذا يدلل على زيف كل الدعوات الفاشلة التي تسيئ لرسالة الاسلام وضماناته في إكرام المرأة .. المسلمون اليوم في اوروبا كتلة سكانية كبيرة تقدر بعشرات الملايين وهم قادرون بلا شك ان يزيحوا عن الاسلام شبهات عديدة يروج لها الاعلام الاستعماري واعوانه.. وهم أيضا قادرون أن يقدموا رسالة الاسلام من خلال سلوكهم الرحمة بالعالمين وحب الأوطان والإخلاص لأهلها والعمل لخيرهم ومن خلال إحيائهم للقيم الاسلامية العليا كالصدق والكرم والوفاء والالتزام والاتقان والجدية والتسامح والعفو وعدم الانعزال واحترام حقوق الناس مهما كانت معتقداتهم .. ان المسلمين في اوروبا يستطيعون انجاز مهمات كبيرة اولها تقديم الدليل على مرونة الاسلام وقدرته على الاجابة على التحديات المستجدة.. وهم قادرون بلاشك ان يطوروا فهم المسلمين وفقههم ويرتقوا به وهم قادرون على ان يكونوا مواطنين صالحين حريصين على نظافة مجتمعاتهم وجمالها وافشاء روح الرحمة والسمو الاخلاقي بين اهلها بغض النظر عن معتقداتهم . وتستطيع الدول العربية والاسلامية ان تعتمد على هذا الامتداد الثقافي الحضاري المتغلغل في المجتمعات الاوروبية لإحداث التوازن في مواقف تلك الدول وهذا يحتاج اهتماما خاصا وتصورا شاملا وامكانات حقيقية.. فقوة الناخب المسلم استطاعت في بعض الاحيان ان توصل نواب مسلمين للبرلمانات الاوربية وان توصل شخصيات مسلمة او صديقة للمسلمين الى منصب رئاسة البلدية في كثير من البلديات الاوروبية .. ولكن هناك مشكلات حقيقية وعميقة في التجمعات الاسلامية في اوروبا يفقدها حتى اللحظة قوتها وقدرتها على التأثير في تشكيل الموقف الرسمي والضغط على صانع القرار لإحداث التوازن في المواقف الخارجية. كما يفقدها التأثير المناسب لحجمها وقدرة رسالة الاسلام في المجتمعات الاوربية بالمقارنة لما تقوم به اقليات اخرى كاليهود الاقل عددا . لم يرتق المسلمون ذوو الاصول العربية في اوروبا الى الاحساس بالمواطنة في اوروبا ولم تزل انتماءاتهم الوطنية او انتماءات آبائهم هي التي تتحكم في مواقفهم وتبدو في كثير من الاحيان كتلا مغلقة للمسلمين بأوروبا كالاتراك بألمانيا حيث يقيمون جمعيات منعزلة خاصة بهم وكذلك الحال بالنسبة للمغاربة، حيث يلتف كل ابناء وطنية على انفسهم وهكذا يتشكل عنصر الانطواء ليعيش المسلمون على هامش دفق الحياة الاوربية. كما أن غياب السلوك المسئول من قبل قطاعات واسعة من المسلمين هناك، يضر بسمعة الاسلام وفعاليته. الانتباه الى هذا الملف من قبل الحكومات العربية والمؤسسات العربية يعتبر من مسائل الأمن القومي للأمة ومن ضرورات ايجاد توازنات حقيقية في العلاقات الدولية ومن اجل شراكات انسانية حقيقية وكذلك من اجل بروز جيل إسلامي اوروبي متفتح مثقف مستنير يمتلك نواصي العلم والمعرفة يكون خادما لمجتمعه الاوربي بتفان ويكون ضامنا لوجود جسر تواصل انساني مع الأمة الاسلامية .. وعنصرا اساسيا لحفظ طموح السلم العالمي . رمضان ينشئ قوة روحية خاصة لدى مسلمي اوروبا وان الانطلاق منه ومن فلسفته ومكانته في نفوس اتباع الدين الاسلامي في اوروبا من شأنه ان يبدأ بهم نحو أفق جديد من الحضور والفاعلية ليصبحوا بعد قليل من السنوات القوة الحاسمة في الضغط من اجل تعديل الموازين لنصرة المستضعفين من ابناء الأمة والانسانية .