" لقد كانت حياة " فان غوغ " مليئة بالمشاكل وكانت أعماله بمثابة انعكاس مباشر لواقعه المرير، كما كانت رسوماته الثورية الطريقة المثلى بالنسبة إليه للفرار من عزلته الداخلية . .. " - " ستيفانو روفو ". * "يكمن الجنون في الأعمال الفنية التي قام بها العباقرة من أمثال "فان غوغ". هكذا كتب "ميشال فوكو" في مؤلفه "تاريخ الجنون"، ملحقا الفنان الهولندي بقافلة المجانين الذين تتصل أعمالهم اتصالا وثيقا بالعبقرية. "فان غوغ"، صاحب لوحة زهرة الخشخاش، مجنون وصف لنفسه دواء من خلال صيدلة الألوان التي عرض فيها وصفته العلاجية عبر الفن. لم يرسم "فان غوغ" زنابق الماء ولم يكن مولعا بها كما كان ذلك شأن الرسام الفرنسي "كلود مونيه"، ربما لأن زنابق الماء لا تمتلك الخلاصة السحرية لتهدئة الآلام النفسية وتلك الطاقة المتمثلة في الإغراء للولوج إلى العالم السحري كما تفعل زهرة الخشخاش . زرع "فان غوغ" على لوحته زهرة الخشخاش وغذاها من عالمه الذي انشطر بين الجنون والعبقرية وسقاها من قريحة نفسه فأصبحت تنام في المتاحف وعليها يسهر الحرس ويقوم الخدم. ولكن حين غفلت الأعين رصدت الأيدي اللوحة لتقوم بسرقتها وتترك الفراغ يتمدد في المكان الذي شغلته. اختفت زهرة الخشخاش من متحف القاهرة فدخل العالم في حالة طوارئ واتخذت الحادثة طابعا دوليا ودخلت الأجهزة الأمنية في حالة استنفار قصوى بحثا عنها. ورصد بعض الأثرياء مبالغ خيالية مقابل استعادتها إلى المتحف المصري للفنون. لكن المفارقة الكبرى أن أزهار الخشخاش منتشرة عبر كل أنحاء العالم، هنالك آلاف من لوحات زهرة الخشخاش يرسمها أصحاب الاختصاص ويشكلون منها سهولا فسيحة تدب فيها الحياة وينتظرون استعمالها لتخدير العقول، عكس أزهار "فان غوغ" التي تحرض عقل الناظر إليها للتأمل. هنالك لوحات مزارع أزهار الخشخاش تحرس حراسة شديدة تماما كما أزهار "فان غوغ". هنالك أزهار الخشخاش في الحقول المحروسة تباع بأثمان باهظة مثلها مثل أزهار الفنان الهولندي، إلا أن ثمة فرقا بينهما وهو أن الأولى واقعية والثانية فنية؛ لكن سبب الغلاء في الحالة الأولى يكمن في البعد التجاري لخلاصة الأفيون وسبب الغلاء في الحالة الثانية يكمن في البعد الفني والجمالي لهذه اللوحة . فعل الفن في نفس "فان غوغ" فعلته فجعله يتجرّع ذات يوم شيئا من أفيون أزهاره فأقدم على عمل جنوني وهو قطع إحدى أذنيه. فعل ذلك حينما سيطر الحزن على قلبه واستبدت به الآلام. قطع الفنان أذنه من دون أن يأبه للآلام التي ستنجر عنها وربما لم يشعر بالآلام قط فكيف يحصل ذلك وهو صاحب مزهرية لأزهار الخشخاش وكلما نظر إليها يشعر بالتأثير السحري لطعم الأفيون يسري في كامل جسده مخدرا مواضع الألم فيه ! . ما أقدم عليه الفنان جعل كل من تأمل اللوحة المسروقة من متحف القاهرة اقتنع بأنه لا يوجد إلا "فان غوغ" واحد في هذا العالم، فهو الرسام البارع وهو قاطع أذنه في حالة جنونية انتابته موصلة إيّاه إلى ما يشبه الوجد الصوفي. ولكن من يتأمل قليلا في الواقع بعيدا عن الأحلام السرمدية التي تنبجس من النظر للأزهار سيجد بأن هنالك آلافا من أمثال "فان غوغ" الذين يزرعون أزهار الخشخاش ويواظبون على زراعتها، لكن ليس لذات الغرض الذي كان لدى الفنان الهولندي. إنهم زارعو الأفيون وباعته، لكن لا يعرضون أزهار الخشخاش في المتاحف والأماكن العمومية؛ بل يجعلونها بعيدة عن الأعين قدر الإمكان وذلك خوفا من أن يقوم البعض بإتلاف المزارع التي تتحول تربتها إلى مادة تجذب الأحلام للمهزومين وتبعث الآمال في نفوس اليائسين... وتجعل العالم كله أحلام وسراب فيحلم الشاب الأعزب الذي يستنشق أريج الخشخاش بأنه يمتلك من الزوجات والجواري ما أنزله الله من سلطان. ويحلم الشاب البطال بأنه تحول إلى رجل أعمال تدر عليه مستثمراته ثروات طائلة... وهكذا تتواصل الأحلام كلما واصلت زهرة الخشخاش مد خلاصتها للمدمن عليها. لكن إذا ما انقطعت عنه ستتحول الأحلام إلى سراب وتتحول اللذة فجأة إلى آلام حادة لأن الجسد بحاجة إلى أفيون يخدر أوجاعه ولابد من تهدئتها ولو كلف الأمر صاحبها ارتكاب جريمة وأخرى . وكي لا يتوقف العازب عن الحلم بملك اليمين وكي لا يتوقف الفقير المعدم عن الحلم بالثروات الطائلة وكي لا يتحول هؤلاء وأمثالهم إلى متمردين على الأوضاع، تزرع زهرة الخشخاش ليتم تغييب الوعي بواسطتها أو تخدير الآلام النفسية والجسدية. وكلما كانت الآلام وكلما كانت الأوضاع أكثر بؤسا كانت الحاجة إلى أزهار الخشخاش في تزايد مستمر، ففي كولومبيا مثلا يتعاطى الجياع الأفيون كي يتجنبوا الآلام الناتجة عن الإحساس بالجوع ! . تتكاثر الأحلام إذن كلما تكاثرت حبوب الطلع في الحقول، عكس أزهار "فان غوغ" فهي عقيمة لأن الفنان استأصل مدقاتها بريشته فمنعها عن التكاثر ومنع كذلك أن تتحول ألوانه إلى سائل مخدر. ولكن هذه الزهرة ليست مرتبطة فقط بالحالات الاجتماعية، بل مرتبطة أيضا بالسياسة والاقتصاد. ففي أفغانستان، مثلا، تقوم قوات المارينز بالإشراف على حراسة أزهار الخشخاش؛ فبعد أن كانت محاربة المخدرات من بين الحجج الأمريكية المزعومة لاحتلال أفغانستان، أصبحت اليوم وسائل الإعلام تتداول صور الجنود الأمريكيين وهم يحرسون مزارع الأفيون؛ إن أمريكا بحاجة لرعاية هذه المادة من أجل تنويم الأفغان لجعلهم يتوهمون بأنها حقا احتلتهم من أجل إرساء الحرية في بلدهم. كما أن أمريكا التي بدأت الأزمة الاقتصادية تنخر عظامها لابد لها من إنعاش وضعها وذلك من خلال تجارة الأفيون وما ينطبق على أمريكا ينطبق على العديد من الدول الأخرى . هكذا إذن علقت أزهار الخشخاش المرسومة في لوحة "فان غوغ" لتلهي الناس بالنظر إليها وينسون أزهار الخشخاش الحقيقية. لقد كانت هذه اللوحة أكثر لفتا للانتباه للصوص المتاحف وهنا السؤال المطروح، ألا يكمن وراء هذا مغزى معيّن؟ لماذا لا يحدث هذا مع لوحة "أزهار دوار الشمس " أو لوحة " أزهار شجرة اللوز " أو لوحة " أزهار السوسن " على الرغم من أنها لذات الفنان؟ . سرقت اللوحة وراحت الأجهزة الأمنية عبر العالم تتلقف الأخبار التي قد توصلها إليها وأعلنت حالة الطوارئ في المطارات وعبر الحدود والموانئ أملا في العثور عليها وإعادتها إلى متحف القاهرة. هُدد سارقوها بأقصى العقوبات... ولكن المثير للسخرية، أنه لما يتعلق الأمر بأزهار الخشخاش الحقيقية، فإن بعض الدول تتواطأ أجهزتها الأمنية مع تجار الأفيون فيغضون أبصارهم عن هذه المادة وهنا تكمن المفارقة حقا، فلماذا لا يتأهب العالم لملاحقة الذين يحملون حاويات من أزهار الخشخاش الحقيقية؟. لماذا لا يعاقب الذين يحرسون تلك الحقول بالرشاشات والدبابات؟ لكن كيف يحدث هذا وقد كثر من يترقب النسغ الكامل في السيقان ليتحول إلى أفيون وإذا ذاقه لم يكتف بقطع أذنه بل بقطع الأوصال التي تربط بينه وبين العالم الواقعي. لقد أصبح العالم يعجّ بآلاف من أمثال "فان غوغ" في البؤس، فيقطعون أوداجهم ويشوهون أجسادهم شوقا إلى الأفيون، ومنهم أيضا من يرسم أزهار الخشخاش في السهول الشاسعة وإذا حدث أن اختفت فجأة، فإن أصحابها سيدخلون العالم حروبا بلا هوادة؛ لأن أزهار الخشخاش أصبحت لدى البعض الطريقة المثلى للفرار من الواقع المرير، كما كان يفعل "فان غوغ" حين كان يفر إلى أزهاره؟.